صوت يتسربل بالوجع, يصدر من ناحية صبارة الزمن, ببلدة عتيقة علي ضفاف نهر الحياة.. يقوي تارة, ويضعف أخري.. فينك يا ضنايا فين.. راح بيك الزمان علي فين.. ياساكن نن وجداني.. يا عايش في حبابي العين.. امرأة فتية فقدت بعض نضرتها.. تسيل الدموع من عينيها دافئة بدفء مشاعرها في الأخاديد التي حفرتها سنوات الحزن والبكاء.. لم تعوضها الأيام بمثله, وربيع وجهه البسام, وأحاسيسه العطوفة الهادئة, وجوده الفياض, وشهامته في المواقف والأزمات العسيرة, وشجاعته في مواجهة المخاطر, وأخذه بيد الضعيف, ونصره للمظلوم, وحمايته لأهله وأقاربه وأهل بلدته من الأعداء المتربصين بهم. كان فارسها في زمن العطاء, وكانت هي بالنسبة له نفسه التي بين جنبيه.. قالوا: ذهب.. وغاب.. ولن يأتي! كثرت الأقاويل والتفاسير من أهل البلدة.. أقرب ما قيل عنه إنه غريب قريب بعيد في بلدته.. لا تراه عيون, ولا يبحث عنه من أحد, ولا ينتظره سوي أمه الجالسة بجوار صبارة الزمن ترويها من فيض دمعها المتدفق.. طال صبرها الممتد عبر دروب المحن.. كل واحد من فلذة كبدها سار في طريق, يرسم لنفسه ملامح المستقبل علي هواه.. امتلكوا الجاه والسلطان, وكل الأشياء في ضواحيهم.. انغمسوا في زحمة الحياة.. أخذوا يلفون بلادهم بالأسوار الغليظة العالية.. أطلقوا فوق الرمال الناعمة قوارب الأحلام والآمال يمتطون ظهور الأوهام, رغبة في الوصول إلي قمم الكمال علي أعاليه.. يغوصون في قاع الواقع يلتقطون ما فيه من أطماع عشقا في رغد العيش. وتبدد الضوء في قلوبهم وعيونهم, وضاع ما بثته الأم فيهم أيام الطفولة والصبا.. توغلوافي عتمة الشروخ التي خلفها زلزال النوي.. يختار كل واحد منهم ما يحلو له من أصدقاء من جهات الغربة علي هواه.. كثرت ألوان وأجناس الأصدقاء, وتباينت لغاتهم.. أصبح البعيد أقرب لهم من أنفسهم, ظنا أنه الساتر من أمواج وأعاصير الأيام.. أينعت حدائقهم الغناء.. نضجت الأثمار علي أغصانها تعاقبت عليهم فصول السنين تمدهم بخيرها.. ما غاض لهم من ماء, ولا نقص لهم من ثمر, لم يفكروا أن يمدوا أياديهم لطرق الأبواب المغلقة, أو لإزالة الأسوار التي تمنعهم من حميمية اللقاء, لم يفكروا أن يتجمعوا تحت سقف بيتهم القديم ينعمون بدفء مشاعر أمهم, عجزوا أن يشعلوا قناديل الأجداد التي أوشكت أن تفرغ من وقود المجد والعزة.. تأكل الأنا ضمائرهم.. يمتص الخلاف ودهم من القلوب.. مدهم الأصدقاء بآلة الحرب, فاعتدي بعضهم علي بعض دون مراعاة لصلة رحم. تخرج الأهات من قلوب البنات والصبيان في كل الجهات من البلدة والبلدات المجاورة مشتاقة إليه.. يخبطون علي الصفائح والطبول بعد دخول الشمس إلي مخدعها.. يهتفون.. يا بنات الحور الحور سيبوا القمر.. القمر مخنوق مخنوق في الريف والحضر يخترق الهتاف أذن الأم.. ينكوي قلبها بنار الانتظار.. صابرة هي علي أمل أن يأتي الغائب علي جواد من نور يخترق غمام المجهول ليضئ قناديل البيت الكبير. نبيل مصيلحي