( يا "ناشا" ستكون قويا وعزيزا في يوم القوة والعزة لكن، في وقت رحيلك إياك وأن تنظر خلفك) كانت قبائل الهمج الساكنة في منطقة شبه معزولة من مناطق الغابات الاستوائية تمارس حياتها في هدوء ورتابة. ولم يكن يعكر صفوها تلك الوحوش الرابضة في مكامن الأدغال وأطرافها. فلقد أعتادت تلك القبائل أمر هذه الظاهرة كواقع معيشي. وحصنت نفسها تبعا لذلك، وأما ما كان يعكر علي الهمج صفوهم فما كان سوي تلك النبوءة التي أطلقها ساحرهم "ماننجا" ومؤداها "أن الغول سوف يأتي في ليلة قمرية. ليحطم ويدمر ويهدم الأكواخ فوق رءوس ساكنيها. إلا إذا ما فروا.". وظل الأهالي في خوف دائم من ذلك الخطر الجديد، ذلك الغول الأحمر ذي العين الواحدة. ومات "ماننجا" ولم تمت النبوءة وأما الساحرة العجوز، فلقد أخذت تؤكد نبوءة زوجها يوما بعد يوم. وكان "ناشا" النحيل، الضامر البنية وفي تلك الأمسية الصيفية الهادئة قد أخذ يسير سيرا متئدا في مسالك الغابة الاستوائية الوعرة وهو شارد العقل، محزون القلب، وكان في سيره مطأطئ الرأس، ناظرا إلي لا شيء! وأما أترابه فكانوا وكأنهم من عالم آخر غير عالمه. وكانت جباههم تعلوها خطوط من الأصباغ الملونة وكذلك صدورهم وأسنانهم وأنيابهم كانت مدببة كنواجذ الوحوش، وشفاهم الغليظة المدلاة تزيد منظرهم الرهيب جدا وجهامة. وأما النساء فقد بقين في داخل أكواخهن وبأبوابها يرقبن أطفالهن عن كثب وهن يعملن ويتسامرن. وكانت النساء تجلسن أمام قدورهن الكبيرة وأواني الطهي وتتحادثن كل إلي جارتها، وأما الأطفال، فكانوا يمرحون ويتلهون بألعابهم المعتادة. ومضي النهار. والساعة تجر أختها. وفي المساء وقبل حلول الليل، كانت الرحلة قد لاحت طلائعها. وعادت محملة بمخزون الأيام السبعة. ودقت طبول العائدين نغمة العودة. وكما جرت العادة، كان الأطفال هم أول المستقبلين والهارعين علي نغمات الطبول، تجمع الأطفال بعيدا عن الأكواخ وهم يحدقون إلي بعيد عبر الأفق، ومن خلال عتمة المساء الراحل تشوقا لرؤية الأحباب العائدين. وجري واحد من الأطفال نحو أمه وهو يهتف بانفعال وتأثر: أماه. لقد رجعوا يا أماه. وهمهمت الأم دلالة علي الفهم وهي تناشد طفلها أن يهدأ قائلة: لا بأس يا "كوزمو". جميل منك ذلك، ولكن لا تصرخ هكذا بصوت عال. وأخذت الأم تعد بدورها عدتها وكباقي أترابها لاستقبال الذين عادوا. اقترب "ناشا" من كوخ الشيخة العجوز ودق علي الباب الخشبي بيد مرتعشة وهو ينادي بصوت هامس: يا حضرة الأم "ماننجا". وسمع "ناشا" ذلك الصوت الذي يعرفه جيدا يدعوه للدخول. ودلف الفتي من الباب الموارب وشق طريقه إلي داخل الكوخ. وهشت العجوز لمقدم الفتي مرحبة بذات الهمهمات الهادئة الوادعة والتي تفيض طيبة وتبعث بالاطمئنان إلي صدر الفتي بينما جلس "ناشا" علي مقعد خشبي صغير مغطي بجلد النمرة، وفي مواجهة صديقته العجوز. قال "ناشا" بصوت خفيض: يا أيتها الأم الطيبة لقد جئت ثانية. وأجابت العجوز بذات الصوت الخفيض: ومرحبا بك يا ولدي. وقال الفتي متلعثما كعادته: وهل من جديد يا أماه؟ وقالت العجوز وهي تعيد علي أسماع الفتي وللمرة الألف كلماتها المعتادة إليه وكلما أتاها: يا "ناشا" ستكون قويا وعزيزا. في يوم القوة والعزة. لكن في وقت رحيلك إياك وأن تنظر خلفك. وصمت "ناشا" بعض الوقت وهو في حيرة من أمره. ثم ما لبث أن غمغم قائلا: لقد غلبتني السآمة. وملأت صدري الملالة أيتها الأم. وقررت الرحيل.نعم، سوف أرحل. وحينما وصلت وفود الهمج الراحلة في تلك الليلة. كانت خيالة البال عن تلك المفاجأة التي كانت تنتظرها وتترصدها في صباح اليوم اللاحق. تلك المفاجأة التي هزت أنحاء الغابة برجالها ونسائها وأطفالها وجميع أهاليها، وقلبت أمنهم خوفا وذعرا، وجعلت صدورهم مهدا لحريق يشتعل بعد أن كانت بردا وسلاما وأطلقت العجوز النبوءة المنتظرة. نبؤة الساحرة "ماننجا". وأشاعت الشيخة العجوز في صبيحة ذلك اليوم الناعس، المفاجأة في جميع أرجاء الغابة الواسعة الأطراف. وانتشر خبر أوان تحقق النبوءة في ليل ذلك اليوم، وحيث سبق أن اشترطت النبوءة ان مقدم الغول إنما في ليلة قمرية، فلقد أيقنت القبائل من أن ليلة اليوم إنما ليلة قمرية لا محالة. وبدأ الهمج يعدون عدتهم لمواجهة الخطر المنتظر. ذلك الخطر الذي أقض مضجعهم طوال هذا الردح من الزمان. وبدأت رحلة السبعة أيام التي تحدث بها الساحر قبل رحيله، تلك الأيام السبعة التي سيحل الغول في أولي لياليها. ويظل يحطم ويخرب. ثم يمضي بعد مضي تلك المدة. وبعد أن يغلبه الملل والجوع علي أمره، ولايعود بعدها أبدا. ونظمت كل قبيلة نفسها تنظيما ذاتيا. وتهيأ الراحلون في مواكب متوازيات وأخري طولية. وبدأ الزحف إلي خارج الغابات الآهلة، نحو العراء إلي شاطئ النهر الكبير. وحيث يرسون طيلة الأيام المقررة آنفا. ومضي زحف الهمج في طريقه لا يكل ولا يمل متحملا في سبيل ذلك العذابات النفسية والجسدية حتي وصل بهم وبعد مسيرة ثلاثة أيام إلي بقعة مكشوفة أدت بهم إلي شاطئ النهر الكبير. وهنالك حطوا رحالهم، وأخذوا يعملون بمهارة وصبر في إقامة أكواخ صالحة لسكناهم. ولم يمض كبير وقت حتي كانوا قد شيدوا أكواخا صغيرة لسكناهم. وبقي المهج ينتظرون مرور الأيام. ولم تكن بأكثر من أيام سبعة. في مساء ذلك اليوم. كانت قبائل الهمج قد غادرت الأكواخ ورحلت عن الغابة قبل المغيب وغروب الشمس راحلة إلي العالم الآخر. ولكن الشمس لم ترحل قبل ان يقوم "ناشا" بمهمته الموعودة. ونفذ "ناشا" تعاليم الشيخة "ماننجا" حرفيا. وبدأ يجمع كل ما خلفه الهمج وراءهم من حاجيات ثمينة، وكل ما نسوه من أشياء في غمرة رعبهم القاتل وهلعهم المجنون. ومضي "ناشا" في طريقه، وبعد أن جمع في جوال كبير زبد الزبد من تحف الهمج وثرواتهم. وكان "ناشا" يعلم مسبقا ما سوف يقوم بعمله بعد ذلك، وقد وعي تعاليم الشيخة العجوز وتعليماتها جيدا، ولم يكن عليه بعد ذلك سوي أن يواصل السير ودونما إبطاء ولكن ناحية الشرق. ومضي "ناشا" نحو الشرق وبثروته الجديدة. وبعد أن أصبح ثريا. ومشي وهو يدرك أن الهمج إنما هربوا كما الجبناء من وجه الغول. وأما هو فقد بقي، وحينما مضي، فلقد مضي هادئا غير خائف من الغول ولا من الأيام. ولم يكن "ناشا" بخائف لأنه كان مدركا أن الميعاد كان خاطئا، وأن الغول لن يأتي طوال السبعة أيام ومضي "ناشا" وهو يشعر ويدرك ولأول مرة أنه هو القوي وأما سائر الهمج فأنهم هم الجبناء. وفي طريقه، أخذت تطوف بمخيله "ناشا" كلمات صديقته العجوز: وإلي بعيد جدا نحو الشرق هناك. تبحر فيما وراء النهر. وتيمم فيما وراء الغابات. وهنالك لن يعرفك جميع الزنج. وتعيش هنالك وبوجه آخر. وتكون لك القوة والعزة والبركة. وثياب وعبيد وخمر وجياد. لكن، في وقت رحيلك. إياك وأن تنظر خلفك! وطوال رحلة الهروب، كان "ناشا" يسمع صوت هزيم الرعد. وعصف الريح. وعواء المردة. وصراخ الشياطين. لكنه لم ينظر أبدا خلفه. ومضي "ناشا" يوسع الخطي نحو الشرق. نحو الشرق البعيد!