المشهد الأول.. استقبلتنا قرية الدهينة بأشواك الصبار علي حواف الطريق الضيق جدا من الجانبين والتي كادت أشواكه تخدش سيارتنا كما خدشت مشاعرنا ليتسرب إلينا إحساس الشقاء الذي يعيش فيه قاطنو هذه القرية. نايف أبو جراد.. الأب المكلوم الذي فقد ابنته الوحيدة التي لا يملك غيرها من الأبناء وعمرها17 عاما علي يد الرصاص الاسرائيلي الغادر, في حادث يرجع إلي20 مارس2008 ورغم مرور3 سنوات علي وقوع الحادث لم يعلم أحد وكأن النظام البائد كان يتعمد إخفاء ما يحدث علي الحدود. ورغم مرور كل هذا الوقت تشعر بأن وجه الأب مازال يحمل نفس نظرة الحزب البائد التي استقبل بها الخبر, وكأن جدران البيت هي الأخري تبكي وتتذكر لعب تلك الطفلة مع أبيها وأمها وهي صوت الأمل الوحيد في هذا المنزل. سادت فترة من السكون تخللتها حوارات الترحيب المنكسرة وكنت خلالها ألملم شتات الأسئلة وأنا لا أعرف من أين ولا كيف اسأل هذا الرجل ولكنني في النهاية اضطررت أن أسأله بصوت خافت عن حكاية سماح مع رصاص الغدر الاسرائيلي. بدأ الحاج نايف حديثه قائلا.. كانت تجمع الحطب مع بنت عمها بمكان قريب من المنزل وفجأة وجدت ابن عمها الصغير يهرول نحوي وهو يصرخ سماح وقعت يا عم جريت.. وحملتها بين ذراعي كانت ملقاة علي الأرض وكان جزء من مخها بجانبها لأن الرصاصة كانت مصوبة بالضبط علي وسط رأسها.. وحين وصلت إلي مستشفي العريش كانت قد فارقت الحياة.. الرصاص هنا كتير ومحدش عارف منين ولفين جاي الرصاص. ويستكمل: هو مقدر ومكتوب.. بنتي الوحيدة اللي ربنا رزقني بيها ماتت شهيدة وأهي تنفعني يوم القيامة زيها زي غيرها.. سماح لا هي الأولي ولا الأخيرة قبلها يمكن عشرين وقعوا وبعدها يمكن تلاتين ماتوا.. شهداء برضه.. وبرضه الرصاص اسرائيلي, لا حد بيجيب سيرة في إعلام ولا في تليفزيون وده كان كله في النظام اللي فات. وواصل كلامه: والواحد ميعرفش إن كانوا قاصدين ولا زي مابيقولوا كل مرة عن طريق الخطأ وده طبعا غير الصواريخ الفلسطينية اللي أكيد مبتبقاش مقصودة بس إحنا متهددين. وقال: مش عاوز حاجة من حد.. وهما يعني هايعملوا ايه, كل اللي قدروا يعملوه خمسة آلاف جنيه رموهالنا من مكتب الاغاثة بالشئون الاجتماعية, ولو أي حد قالنا تسيبوا المكان ده وتروحوا حتت تانية مش هايحصل.. الأرض دي أرض أجدادي من عام1800 من قبل مايكون فيه حدود.. هنا اتربينا وشربنا عاداتنا وتقاليدنا وهنا.. هانموت. وتوقف قليلا وتابع: بس كمان لازم يبقي فيه حل.. لازم يبقي فيه أمن, يعني لازم الجيش يدخل يحمي حدودنا.. المعاهدة بتاعة كامب ديفيد جايرة علينا وظلمتنا كتير آن الأوان يعدلوها.. وكمان لازم يهتموا بينا إحنا دمنا مش رخيص ومطالبنا مشروعة عايزين مياه وكهرباء ومستشفيات, تانك المياه هنا بمائة جنيه ويكفي ل15 يوما فقط. أم عزيز.. تلك السيدة العجوز التي اقترب شوك الصبار ان ينمو علي جسدها النحيل من كثرة ما صبرت عل فراق زوجها حمدان سويلم وكذا كان حال أم حمدان امرأتان باكيتان دوما هكذا يصفهما أهل القرية. لملمنا شتات الحزن وقاومناه حتي استطعنا أن نسألهم ماذا حدث؟! وما هي قصة استشهاد حمدان؟ فقالت أم عزيز.. في يوم3 يناير2008 كان حمدان قد خرج من المنزل وبعد أقل من ساعة سمعنا صوت رصاصات متقطعة فخرجت لأجده ملقي علي الأرض وقد استقرت رصاصة في صدره.. وما أن حاولت حمله.. حتي اخترقت رصاصة أخري كانت مصوبة نحوي شجر الصبار. وتستكمل أم عزيز.. في المستشفي تم تغيير تقرير النيابة التي أقرت انه طلق ناري وعيار اسرائيلي.. وهددنا بعض الضباط بعد أن كتبوا في التقرير انه جرح قطعي بسبب طعنه سكين وقالوا لو مسكتيش هانقول أخوه اللي قتله. أما أم حمدان فلم نستطع أن نسمع منها سوي بعض مما فسرناه وسط لهجتها السيناوية من دعاء وبكاء.. نتذكر منه الظالم.. وتقول حسبي الله ونعم الوكيل... ما نملك تليفزيون وشفنا صورته ورا القضبان.. ونحنا بانتظار الحكم..