نحو700 ألف شخص مريض يبحثون عن مستشفي يعالجهم.. يهيمون علي وجوههم في الشوارع والميادين بدون هدف أو وعي لما يدور حولهم, يبتسمون قليلا ويبكون كثيرا, وبين الابتسام والبكاء يرددون كلمات وعبارات غير واضحة, ولكن مع التدقيق الشديد فيها قد يعرف الانسان السبب وراء تحويل الواحد منهم إلي مجنون شوارع, البعض من مجانين الشوارع فقد عقله نتيجة لتعرضه لصدمات نفسية أو التعذيب في مقار أمن الدولة ولكنهم جميعا ضحايا المجتمع الذي لم يوفر لهم أبسط حقوقهم الانسانية ألا وهي سرير في مستشفي بدلا من العيش بالشوارع في حالة يرثي لها بدون مأوي ولايجدون ما يأكلونه. البداية كانت من منطقة العباسية حيث كان يجلس أحد المرضي النفسيين وعندما سألناه عن اسمه وهويته جاء رده بكلمات غير مفهومة وغير منطقية وكان ينظر إلينا بعيون زائغة يملأها الحزن وعندما علم صاحب المقهي بهويتنا أرشدنا إلي شخص آخر يدعي الحاج شهاب علي مؤكدا أنه يعرف قصته كاملة, وقال إن الرجل مريض نفسي حيث كان يعمل مدرسا في إحدي المدارس الحكومية ولكنه تعرض لأزمة في العمل مع مدير المدرسة أصيب علي أثرها بحالة من الاكتئاب وبعد ذلك تطور الأمر إلي لوثة عقلية, وحاولت أسرته علاجه في أحد المستشفيات الخاصة منذ أكثر من6 سنوات ولكنه لم يستجب للعلاج والآن لا نعلم عن أسرته شيئا وهو الآن موجود ليلا ونهارا في الشارع وأحيانا نشاهده في وسط البلد ويرجع بعد فترة إلي المنطقة. ويلقي باللوم علي النظام السابق في انتشار المرضي العقليين والنفسيين في الشوارع بسبب تجاهلهم, ويتساءل لماذا لم يفكر جمال مبارك ورجال الحزب الوطني في هؤلاء البشر بدلا من نهب أموال البلاد. وفي منطقة باب اللوق شاهدنا رجلا في العقد السادس من العمر يخلع الحذاء ويقذف به رجال الشرطة الموجودين في المكان ويسبهم وكانت عيناه زائغتين أيضا. وفي منطقة السيدة زينب حاولنا التحدث مع شخص آخر ولكنه رفض خوفا من سرقة ما معه من نقود وهذا الشخص يعتقد أن كل من حوله مجانين والغريب أنه يعرف اسم حبيب العادلي, ويضيف كلكم خونة مثل حبيب العادلي أنا هاقتلكم كلكم, وفي المنطقة ذاتها كانت هناك سيدة في العقد الخامس من العمر تجلس في الميدان وعندما حاولنا نعرف حكايتها رفضت وقالت أنا مش عارفة أنا مين بدون أب وأم وفشلنا في التعرف علي حكاية هذه السيدة التي قامت بإلقاء قطعة من الطوب علينا وبالفعل انصرفنا حتي لانثير غضبها. وفي ميدان عبدالمنعم رياض شاهدنا أكثر من شخص من هؤلاء المرضي يتقمصون دور شرطي مرور ويقومون بتنظيم حركة المرور كما شاهدنا أكثر من شخص يمشون شبه عراة في الشوارع. وشاهدنا أيضا شخصا مجنونا يمسك حجرا كبيرا ويرميه علي المارة وكان يصرخ في هستيريا ويطلق اسم شخص غير معروف ويقول هو اللي أخد مراتي مما جعل المارة يفرون من أمامه, والتقينا بشقيقة هذا المريض وتدعي أنوار عبدالحليم وقالت إنه كان طالبا متفوقا ومن الأوائل علي الدفعة في مرحلة الثانوية العامة وكان مشهودا له بحسن الخلق والالتزام, ولكنه تعرض لحادث أدي إلي تلف بعض خلايا المخ وأصبح لا يدرك ما يقوم به من تصرفات وكثيرا ما يمسك بسكين ويحاول الاعتداء علي من حوله, وأحيانا يقوم بجرح نفسه بإصابات خطيرة. وتضيف أنا المسئولة عن رعايته لأن والدي متوفي وتكلفة العلاج العقلي كبيرة جدا, خاصة وأنني تقدمت بالعديد من الطلبات لعلاجه وللأسف المسئولون لا بستحيبون لنا, ومصير أخي الآن في الشارع ويسبب لنا العديد من المشاكل مع الجيران. صبحي عميش مريض نفسي ويبلغ من العمر55 عاما وعندما سألناه عن أحوال البلد رد بارتعاشة أنا معملتش مظاهرات وخايف أحسن يكهربوني زي زمان أيام السجن وكانت المفاجأة الصادمة هي أنه كان معتقلا في أواخر الثمانينيات حسبما يقول الحاج هو من أقدم البوابين بهذه المنطقة ويضيف أنا أعرفه منذ عام1977 وكان شابا عاديا حيث كان يعمل بوزارة الثقافة لكن للأمانة لا أعرف ما هي وظيفته وألقي القبض عليه منذ سنوات طويلة ولم نعرف شيئا, لكنه ظهر مرة أخري عام1996 كان إنسانا آخر غير الذي نعرفه من قبل ولا ندري ما الذي أوصله لتلك الحالة المزرية. بجوار أحد المطاعم في شارع رمسيس كان يجلس محمد صلاح وهو مريضا عقلي والتقينا بالعديد من أهل هذه المنطقة لكي نعرف ما حدث له وكان منهم الحاج عبدالرءوف زينهم الذي اتصل بشقيق محمد وحضر وهو رجل في العقد الخامس من العمر ويعمل بأحد المعاهد الأزهرية وروي القصة قائلا إن أزمة محمد بدأت في عام1990 عندما كانت هناك مشكلة مع رئيس الحي بسبب قطعة أرض ورثناها ورفض المحافظ ورئيس الحي التصريح لنا ببنائها, وحاول شقيقي محمد حل هذه المشكلة مع رئيس الحي والمحافظ ولكنه فشل فحاول اللجوء إلي الرئيس السابق حسني مبارك ومنذ هذه اللحظة حدث تحول في حياته حيث تم القبض عليه من قبل أمن الدولة, وكان شقيقي صيدا سهلا لهم حيث كان يعمل خادما في أحد المساجد التي كانت تحت مراقبة الجهاز وتم اتهامه بالجنون وأنه تفوه بألفاظ خارجة ضد رئيس الجمهورية وتم عمل محضر بذلك وأحيل إلي مستشفي الأمراض النفسية والعصبية بعد أن قضي5 سنوات في المعتقلات حيث أفقدوه عقله ومنهم لله جبابرة أمن الدولة والنظام البائد الفاسد. ويعلق الدكتور سيد صبحي أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس قائلا إنه من العار ترك هؤلاء الاشخاص في الشوارع نظرا لأنها تمثل سبة في جبين المجتمع, خاصة وأنهم في حاجة إلي رعاية ومتابعة وإحساس وجداني يجعلهم يشعرون بأنهم أفراد لهم قيمة في المجتمع. ويقول لا يجب أن نطلقهم في الشوارع بهذا الشكل المزري خاصة وأنهم من الممكن أن يكونوا عراة ولا يليق بمجتمع ينشد الأمل والمستقبل تركهم, فنحن الآن نتكلم في مليارات الجنيهات التي سرقت من مصر ونتجاهل هؤلاء الأشخاص الذين يحتاجون إلي الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية حتي يشعروا بأن لهم حق الحياة, مطالبا وزارة الصحة ممثلة في الوزير بإعادة النظر في هذا الموضوع خاصة وأننا لدينا و700 ألف مريض في حاجة للعلاج بالمستشفيات.