فقدت مصر بوفاة الدكتور فؤاد زكريا واحدا آخر من عقولها الكبيرة. عاش الرجل حياة طويلة كرس الجزء الأكبر منها لنشر قيم العلم والثقافة العلمية والعلمانية. لست متأكدا مما إذا كان الدكتور زكريا كان راضيا عن حال التفكير العلمي والثقافة العلمية في مصر التي رحل عنها وأظن أن الرجل ذهب عن عالمنا بقدر من خيبة الأمل, فقد بدأ الراحل نشاطه في مرحلة بدت مصر فيها واعدة بقدرة غير محدودة علي التفاعل مع أفكار الحداثة وطرائق التفكير العلمي وربما العلمانية. لكن قبل أن تنتهي حياة المفكر الراحل بعدة عقود كان المجتمع المصري قد دخل مرحلة جديدة من تطوره الفكري والثقافي كانت فيها الأفكار والقيم التي دعا إليها الدكتور زكريا تعاني من غربة متزايدة في المجتمع. مع هذا فإنه لا يمكن القول أن حياة الراحل الكبير وجهده قد ذهبا هباء, فالأمور كان من الممكن أن تكون أكثر صعوبة بكثير لو لم يكن الدكتور فؤاد زكريا وآخرين مثله علي مثل هذا القدر من الإصرار في التبشير بما آمنوا فيه. فقد كان الراحل الكبير مصدرا لحيوية رائعة في الحياة الفكرية المصرية, وعلي كتاباته تتلمذ مئات من الشباب المثقف الذين وإن ظلوا أقلية إلا أنهم أبقوا علي جذوة الفكر العلمي وقيم الحداثة متقدة في المجتمع المصري. وعلي نفس القدر من أهمية الدور الذي لعبه الراحل الكبير في تنشئة جيل جديد متأثرا بالأفكار التي بشر بها, فإنك تجد أثرا لكتاباته هو وزمرة المثقفين الذين وقفوا معه في الصف نفسه في الإنتاج الفكري لجيل من المثقفين الإسلاميين الذين استطاعوا بشجاعة فكرية يستحقون عليها التحية الخروج من أسر الثنائيات المتعارضة والتناقض الذي لا مصالحة فيه بين الدين والعلم, والأصالة والمعاصرة, والدين والحرية الفردية, والوحي والعقل. إنها العودة للوسطية المصرية الكلاسيكية التي ميزت الحياة الفكرية لهذا الوطن لعقود وقرون طويلة, والتي لولا جهود الدكتور زكريا وأقرانه لكانت الفرصة منعدمة لظهور تيارات إصلاحية مستنيرة بين التيارات الإسلامية, ولكان التيار الإسلامي الموجود بقوة في مصر قد تم اختزاله إلي تيارات متطرفة تقتل المخالفين وتفتي بتحريم كل شيء, فقد حمانا الدكتور فؤاد زكريا رحمه الله من مصير طالباني كان له أن يحرق الزرع والنسل في المحروسة.