في لحظة تصورت أنها النهاية وأيقنت أن الطريق الذي مشيت فيه لم يكن إلا طريق من نار التهمت ألسنته حياتي كلها ولم يبق منها غير رماد أيام سرعان ما تكتمر النيران فيها وينتهي كل شيء. ولكن خيطا رفيعا كان يفصل بين إحساس النهاية والرغبة الجامحة في النجاة, كانت أوصالي متهالكة إلي حد الفناء, تجتاحني آلام مبرحة أكتوي بها إلا من جرعة السم تسري في عروقي فتهدأ ثورة الموت في جسدي, وتعود زهوة الحياة أركض فيها موفور القوة ذاهب الوعي, أتوهم أن المخدر يسري في دمي فيمدني بالطاقة لا حد لها, ولكن شيئا فشيئا تنسحب الروح مني وتتآكل أوراق شبابي ذبولا, وأنا مازلت مستسلمة لجرعات الهيروين آخذها في موعدها قبل أن يشتعل جسدي حريقا. في لحظة انسلبت فيها إرادتي تماما أخذني والدي بالقوة إلي أحد المستشفيات لعلاج الإدمان, لم أدر بالدنيا بعد أن كنت في حالة هياج شديد, أظلم النور في عيني وغاب الوعي مني ورحت أطوف بعمري الذي انقضي وكيف كنت قبل سنوات من الضياع وكيف أشرق فجر الفرحة في البيت يوم أن نجحت في الثانوية العامة وكنت من أوائل المحافظة, كنت وحيدة أبي و أمي يسخران حياتهما من أجلي لا يعنيهما في الدنيا غيري وفرحت يومها لفرحهما وأني استطعت أن أكلل كفاحهما في الحياة من أجلي بالنجاح المبهر تتطاول به رأس أبي فخارا وعزة يمني نفسه أنه بعد بضعة سنوات سيناديه الناس بأبي الدكتورة. ولم أكن أنا التي يمكن أن تخيب له أملا يعيش من أجله, تقدمت بأوراقي لمكتب التنسيق وقتها وحصلت علي الفرصة الحلم لدراسة الطب وإذا كانت بداية طريق النجاح دائما ما تبدأ بخطوة فإن شهور الجامعة الأولي كانت تنبئ لي بالتفوق والنجاح في كل خطواتي المقبلة بعد ذلك ولكنها الأقدار شاءت لي أن أمر بمحنة عاطفية زلزلت حياتي كلها عندما تعرفت علي شاب زميل لي في الكلية, لم أكن أدرك أن رومانسيات الستينيات والمشاعر الفطرية الجميلة التي كنت أحبها وأعبر عنها بكلمات شعرية هي نبض روحي يتفهمها البعض علي أنها نوع من سذاجة تجعلني لقمة سائغة لأي ذئب يحترف العزف علي أوتار القلوب بأسطوانات الغرام حتي ينال من فريسته مأربا ثم يلفظها ثملا بما ارتوي منها باحثا عن غيرها يروي عطشه الشيطاني منها, ولأني لم أكن أعرف خطورة استسلامي لمشاعر كنت أظنها راقية دفعت ثمنا باهظا ولولا رحمة الله بي ودعاء أمي وأبي لي لضاع معها شرفي وجوهر حياتي كله. كنت أحب زميلي هذا بجنون وأري سعادتي إلي جواره, أكتب قصائد في كل لحظة أعيشها معه حتي عندما طلب مني أن نتزوج عرفيا حتي نتخرج في الجامعة ونتزوج بعدها رسميا لم أرفض بشكل مباشر ولكني أقنعته أني وحيدة والداي ومن حقهما علي أن أسعدهما بزواجي ووعدته ألا أتخلي عنه رغم علمي بتدني مستواه الاجتماعي بالنسبة لمستوي والدي, وظننت أنه اقتنع لحجتي حتي اصطدمت فيه عندما علمت بفضيحته مع زميلة أخري تزوجها بنظام كان منتشرا بين الطلبة يسمي زواج الدم وما إن حملت منه حتي اتهمته وأهلها بالتغرير بها وقبضت الشرطة عليه. كانت صدمتي كبيرة لم أقو علي احتمالها حتي أنني أصبت بانهيار عصبي حاد واستلزم علاجي الحقن بنسب معينة من المهدئات التي اعتدت عليها وأخذ الأمر يتطور معي شيئا فشيئا حتي انخرطت في صداقات سوء عرفت معهم الساحر القاتل أستنشقه سما مبدعا في عقلي وجسدي, وأدمنت الهيروين ووصلت فيه إلي منتهي مراحله توشك النهاية أن تقضي علي. والآن تطبق الحوائط البيضاء من حولي, تكاد تخنقني, يتآكل جسدي ألما فأصرخ بملء صدري أريد جرعة السم ولتنتهي الحياة لا أبالي ولا أجد غير صمت مطبق وعلاجات واهية وصدمات كهربائية أحيانا وفترات طويلة أغيب فيها عن الوعي, شهور طويلة لفظت فيها السم من جسدي رغما عني ولكن ما تماثلت للشفاء بعد, صحيح أن المخدر لم يعد ملحا علي ولا يكتوي جسدي به ولكن إن لم أتعلق بإرادتي في قوة وتحد سوف أسقط ثانية في لجة الإدمان وبراثن الشيطان فأضيع بلا رجعة, وقتها وعيت حجم الكارثة التي كنت فيها وتحديت ضعفي واستسلامي وقررت أن أعبر كل هذا إلي حياتي قبلهم, أعود لفطرتي وتفوقي وأحلامي, كنت أري الدمع ينساب حسرة من عيني والداي فأزداد قدرة وإرادة علي المواجهة والمقاومة في ذات الوقت, عام كامل كنت أصارع فيه نفسي حتي انتصرت عليها, لقد خرجت للدنيا بروح جديدة ملؤها الحب والأمل وأكملت دراستي الجامعية وتخرجت طبيبة, بل استكملت دراساتي العليا بامتياز والآن أردت فقط أن أحكي لك حكايتي ليس طلبا للحل أو النصيحة أتجاوز بها أزمتي فأنا بالفعل تجاوزتها ولكن لعل أحدا يمر بالظروف نفسها ضعفي واستسلامي يأخذ العبرة من حكايتي تقويه و تدفعه لمقاومة نفسه والتغلب عليها. م. ك. الإسكندرية إن من تختبره الحياة في محنة قاسية ولا يكون في قلبه شيء من صبر أو إيمان يضيع حتما وأنت يا ابنتي أحبك الله فأعانك علي ما أنت فيه ولولا أن قلبك عامر بالله واليقين في رحمته لكنت من الهالكين فسر الإرادة وسحر قوتها يكمن في اليقين بالله وقدرته ورحمته أيضا ولعل تضرع أبيك وأمك لرب العزة بالدعاء كان سندا قويا لك في محنتك التي كانت قوتك فيها من قوة إيمانك بالله وصدق النبي محمد صلي الله عليه وسلم عندما قال:, المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير]. وسر القوة هنا هو عزيمة النفس علي مقاومة الضعف والاستسلام وتدعيمها بالتوبة النصوح والإقلاع عن الضرر أيا كانت قدرته في السيطرة علينا. ويؤكد الله تعالي ذلك في قوله:{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلي قوتكم ولا تتولوا مجرمين}. اهنأي يا ابنتي بفوزك العظيم صبرا وإيمانا وقوة ولعل القادم أفضل إن شاء الله.