قرأت منذ فترة حكاية الفتاة التي تراودها صاحبة العمل في أن تزوجها من ابنها المختل عقليا وأحببت أن أكتب لك حكايتي التي كانت تقترب في أحداثها من هذه القصة, ولكني ترددت بعض الشيء حتي استطعت جمع شتات نفسي وقررت أن أكتب لعل من يقرأ حكايتي يعلم أن هناك من يعيش في الدنيا حياة هي الأغرب من أي خيال, و أن المقدرات الإلهية لمن الحكمة بمكان أنها ترشد الناس لسر وجودنا بالحياة.....! قبل خمسة وعشرين عاما كنت فتاة جميلة والجمال الذي حباني به الله عز وجل لم يشغلني بالدنيا وفكرة انتظار العريس إللي هيندلق علي بوزه بنظرة عين واحدة.. كان هناك حلم آخر يشغلني ويملك علي نفسي و لكن بيني وبينه المستحيل فأين لفتاة فقيرة مثلي ولدت لأب لا يملك من قوت يومه غير بدن متهالك يخرج به مع مطلع الشمس وفي يده قادوم وأجنة يجلس بهما علي قارعة الطريق ينتظر رزقه بأن يستخدمه أحد الناس مقابل بضع جنيهات قليلة يأتي بها والدي في آخر النهار كي يسد بها جوع ثلاث بنات وأربعة أطفال.. كيف لفتاة في مثل ظروفي الاجتماعية المتدنية أن تحلم بالتعليم ودخول الجامعة والتخرج فيها..؟ أنا يا سيدي كنت أكثرشجاعة وجرأة من الفتاة التي ترددت في قبول الزواج من معتوه فقد مررت بنفس الموقف الصعب الذي مرت به ولكن ذلك كان في مرحلة مبكرة من عمري وأنا في الثانوية العامة.. كنت متفوقة في دراستي إلي حد بعيد رغم أني لم أكن أملك رفاهية الحصول علي دروس خصوصية واعتمادي علي حالي هو سر إرادتي أن أستمر حتي أحقق حلمي المستحيل أن أكون يوما دكتورة وأنزع عن كاهلي أسمال الفقر الذي ولدت بها ولازمتي حتي صدر شبابي. في ذلك الوقت كان والدي قد قرر إخراجي من المدرسة كي أعمل أي عمل يدر لي مالا أساعده به علي متطلبات الحياة واحتياجات أشقائي الصغار وبالطبع كان من العبث أن أستمر في حلم كتبت عليه الأقدار أن يموت في صدري..! تهيأت بالفعل وخرجت لسوق العمل أخدم مع أمي في البيوت ومن بقايا الناس ومسح أدرانهم ألتقط رزقي حتي التقيت بسيدة كانت سخية اليد معي لأبعد الحدود.. قالت لي إني مثل ابنتها وإنها سوف تساعدني أن أكمل تعليمي.. فتحت أمامي كل الأبواب المغلقة وأزاحت عن صدري كل ركامات الهم والفقر.. لم يشغلني ساعتها سر تعاطفها معي ولا فكرة أن هناك ثمنا علي أن أدفعه مقابل هذا السخاء السحري الذي خلق من حولي أسبابا جديدة لحياة كريمة لم تكن لي..! لم أشعر بالصدمة أو الخوف من مجهول يترقبني عندما وجدت المرأة تحدثني عن ابنها الأكبر الذي ولد بعاهة ذهنية تجعله غير مؤهل للحياة الطبيعية طوال عمره.. قالت لي الأم: كل أولادي فرحت بهم ولدان وثلاث بنات كبروا وتزوجوا وحملت أولادهم ولكن قلبي يتمزق ألما علي ابني الأكبر هذا.. كام حلما أن أراه طبيعيا وأزوجه ويكون لي حفيد منه..! لم أستغرق وقتا طويلا كي أفهم ما ترمي إليه المرأة.. استوعبت مقصدها وأجبتها بالقبول علي الفور عندما فاتحتني في أنها تريد أن تزوجني ابنها المعتوه هذا.. لم أفكر في حياتي مع رجل بلا عقل ويكبرني بأكثر من خمسة عشر عاما ولكن فكرت في حلمي الذي مات أن يسترد الحياة وأعملت إرادتي من أجل مستقبلي.. وافقت علي الزواج من ابنها والعيش معها في نفس البيت.. وإحقاقا للحق كانت المرأة رحمها الله أما لي كما كانت أما لابنها هذا أعانتني في كل شيء, كيف أتعامل مع زوج غير طبيعي وكيف أستذكر دروسي حتي أكملت الثانوية العامة بتفوق والتحقت بكلية الطب وبات حلمي في أن أكون دكتورة أقرب للواقع منه إلي الخيال ومن كرم ربي علي أن رزقني بطفلي الأول وأم زوجي معي فقد تولت هي رعايته وفرغتني لدراستي كانت فرحة به إلي حد الجنون.. ومضت الأيام بي علي وتيرتها واستهوتني دراستي الطبية أن أتخصص في أمراض المخ والأعصاب وحققت نجاحا كبيرا ولم يعقني هذا عن إنجاب ولد وبنت آخرين وكم حمدت الله أن أولادي لم يرثوا من أبيهم قصوره الذهني.. استمرت جدتهم في رعايتهم حتي توفاها الله و كانت تدعو لي أن كنت سببا في صلاح شأن ابنها وأن تكون له ذرية بعد أن نفرن منه النساء إلا أنا التي اتخذت منه طوق نجاة لحالي..! عشرون عاما مضت علي حياتي مع زوجي هذا, استطعت خلالها أن أنمي من حالته العقلية معتمدة علي خبرتي الطبية حتي إنه بات يبدو إلي حد ما طبيعيا في تعاملاته مع الناس.. شيء من الأمل جعلني أمضي في الدنيا أحث الخطا نحو أحلامي ووفقني الله في بيتي وفي أولادي, ولهذا كتبت حكايتي لعل الفتاة التي ارتأت في أمر زواجها من شخص لديه قصور ذهني نوعا من الامتهان لكرامتها تعرف أنها عسي أن تكره شيئا وهو خير لها فما تدر ما تخبئه لها الأقدار. ن. ت. القاهرة إذا كان شيء من الأمل صنع منك يا سيدتي هذا النموذج العظيم لامرأة قهرت العجز والفقر وحققت كل الأحلام المستحيلة فحري بهذه الفتاة المترددة أن تتخذ منك القدوة ولكن إذا كان لكل حالة ظروفها النفسية والاجتماعية والقدرات التي تمكنها من المواجهة والصبر والتحمل فإن هذه الفتاة تحتاج إلي القدر الكافي من الإيمان والإرادة حتي تحقق ذلك ولولا حكمة وهبك الله إياها ما كان لك أن تصلي إلي شيء من نجاح وصدق الله العظيم عندما قال:{ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب*}( البقرة:269). ويقول الرسول( صلي الله عليه وسلم): من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلي الجنة. ولك أن تعلمي يا سيدتي أن كفاحك وسر نجاحك في طريق العلم يرتكز علي ركيزة أساسية وهي الرسالة التي وهبتي نفسك لها عندما وافقتي علي الزواج من قاصر ذهني وأقمت به أسرة بل واجتهدتي حتي قومتي شيئا من قصوره ولعمري ذلك الفوز العظيم فقد أوتي لك خير الدنيا والآخرة بما عملتي في حياتك.