.. كنت وما زلت أنتظر من الجمعيات والأحزاب والائتلافات المصرية أن تعتمد علي أنفسها تماما في إعداد برامجها الوطنية لنشر الثقافة الديمقراطية.. لأن هذه الثقافة ترتبط أولا بإبداع وطني مطلوب, ودون إضفاء طابع عالمي كاذب علي الديمقراطية الأمريكية التي يتم تصويرها علي أنها صالحة لكل زمان ومكان طالعتنا الصحف في الأيام الأخيرة بأخبار تفيد بأن الحكومة المصرية أبدت امتعاضها لنظيرتها الأمريكية لقيام إحدي الوكالات الأمريكية بالإعلان في الصحف المصرية مباشرة لقبول طلبات من جمعيات مصرية للتدريب علي الديمقراطية, وخاصة الانتخابات وحقوق الإنسان وما تسمي الأنشطة المدنية, بقيمة تعادل380 مليون جنيه, وتلخص اعتراض الحكومة المصرية علي أنها لم تستأذن ولم تستشر في شيء من هذا.. ومع ذلك اكتفت الحكومة بالتعبير عن امتعاضها!! وازدادت الصورة غرابة حينما نشر أحد كبار الكتاب أن أكثر من600 منظمة مصرية تقدمت للوكالة الأمريكية بطلبات ومشروعات للتدريب علي الديمقراطية.. وليعرف القارئ أن هذه الأموال ستنفق علي ندوات وسفريات ونشرات.. الخ وليس بالطبع علي مشروعات اجتماعية أو إنتاجية مثلا.. المعروف أن الأمريكان لا ينثرون أموالهم في الفراغ, وإنما بالتأكيد هناك أهداف وراء ذلك, نكتفي بالقول إنها أهداف في خدمة الدبلوماسية العامة الأمريكية.. وبالتحديد الترويج لأفكار بعينها تتصل بصلب الفهم الأمريكي للديمقراطية.. والكاتب لا يدعو طبعا إلي تشديد القيود الحكومية علي أنشطة المجمع المدني.. فقد كان الحزب الوطني والمنظمات التابعة لحرم الرئيس المخلوع هم المستفيدون الأول من هذا النوع من المنح.. مقابل الصمت عن بعض منظمات حقوق الإنسان والمرأة التي تحصل بدورها علي جزء من الكعكة.. كنت أتصور أن الأوضاع ستتغير كثيرا بعد ثورة25 يناير, ولكن جاء التغيير بالمزيد من المظاهر السلبية, فالتمويل هذه المرة يمتد إلي بعض التشكيلات المرتبطة بأحزاب ليبرالية, وللأسف أيضا بدأ يمتد إلي بعض التجمعات الشبابية ذات الخبرات القليلة في التعامل مع الأجنبي وفهم أغراضه الحقيقية.. وأول ما يدعو للانزعاج أن البعض يتصور أن هذه الوكالات الأمريكية لا صلة لها بحكومة بلدها.. وهذا ليس صحيحا فارتباطها بواشنطون ماليا وأيديولوجيا قوي جدا.. وقد لعبت هذه الوكالات والمنظمات الأمريكية أدوارا معروفة في شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.. أما عن الوطن العربي فحدث ولا حرج!! يبدو أن الثورة المصرية قد فاجأت الدوائر الرسمية والأهلية الأمريكية فتحاول الآن اللحاق بما فاتها, متصورة أنها من خلال هذه الأنشطة يمكن أن تخلق أجيالا من المرتبطين بالقيم الأمريكية, وخاصة فيما يتعلق بالديمقراطية.. وليسمح لي القارئ بالتركيز هنا علي النقاط التالية: (1) المفهوم الأمريكي للديمقراطية يركز علي جوانبها السياسية, ويربطها ربطا لا ينفصم بالحرية الاقتصادية المطلقة للمشروع الخاص دون تدخل للدولة في الحياة الاقتصادية أو تقديم الخدمات الاجتماعية أو دعم الفئات الضعيفة في المجتمع. (2) الفهم الأمريكي للديمقراطية يربطها برؤية نعرفها جميعا' للتسامح' مع العدو الصهيوني, والتدخل السافر في الشئون الداخلية تحت شعارات مثل' الإنسانية' والدفاع المغرض عن حقوق' الأقليات'.. الخ. (3) إن سجل الولاياتالمتحدة مع الديمقراطية في الوطن العربي مليء بالخروق والبقع السوداء, حيث سادت في أغلب الأحوال ما تسمي' المدرسة الواقعية' التي لم تتورع عن إسناد وحماية أبشع النظم دكتاتورية وفسادا وتخلفا طالما أنها لا تعترض طريق المصالح الأمريكية في المنطقة(4) لا يمكن بالطبع التغاضي عن حقيقة أن مثل تلك المشروعات للتدريب علي الديمقراطية تستهدف استمالة قيادات من الشباب الذين صنعوا الثورة.. وتحويلهم من مناضلين متطوعين إلي محترفين يحصلون علي مقابل للدراسة والتدريب.. أو علي الأقل تلميع نماذج شبابية جديدة بعينها يمكن أن تقود تطور الأحداث مستقبلا. (5) لا أتصور أن بلدا عريقا كمصر, عرف الديمقراطية فكرا وممارسة منذ أواسط القرن التاسع عشر بحاجة إلي مدربين أجانب ومقررات تدريب مستوردة وخبراء في' الديمقراطية' يعملون علي وضع العملية كلها في إطار المصلحة الأمريكية. (6) إن من أبسط حقوق كل شاب أو مواطن سيشترك في هذه الأنشطة التدريبية أن يقال له بكل وضوح إن هذا النشاط بتمويل أمريكي.. وعندئذ يكون له الحق في اختيار ما يمليه عليه ضميره. .. كنت وما زلت أنتظر من الجمعيات والأحزاب والائتلافات المصرية أن تعتمد علي أنفسها تماما في إعداد برامجها الوطنية لنشر الثقافة الديمقراطية.. لأن هذه الثقافة ترتبط أولا بإبداع وطني مطلوب, ودون إضفاء طابع عالمي كاذب علي الديمقراطية الأمريكية التي يتم تصويرها علي أنها صالحة لكل زمان ومكان.. إن الممول يختار المدرب.. والمدرب هو الذي يحدد خطة اللعب وأسماء اللاعبين.. بينما الديمقراطية هي حياة الشعب اليومية ولا يصح أن يتحكم فيها أجنبي حتي لو ارتدي قفازات من حرير مرسوم عليها زورا العلم المصري.. ومن المعروف لأبسط دارس للعلوم السياسية أن الولاياتالمتحدة تعتمد في تنفيذ سياساتها وخدمة مصالحها علي نوعين من القوة.. النوع الأول هو القوة الصلبة التي تتمثل في غارات حلف الأطلنطي التي قتلت ملايين البشر في سائر أنحاء العالم, أو العمليات التخريبية والاستخبارية التي لم تتورع يوما عن خلق تنظيم القاعدة نفسه.. أما النوع الثاني فيطلق عليه القوة الناعمة التي تعتمد علي الضغوط الاقتصادية والمناورات الدبلوماسية والتأثير الثقافي.. وقد تزايد استخدام الأسلوب الأخير بعدما أثبت نجاحه مع ما تسمي الثورات الملونة في شرق ووسط أوروبا.. ومن المعلوم أن كل الإدارات الأمريكية قد استخدمت مزيجا بنسب مختلفة حسب الحالة من القوتين الصلبة والناعمة.. فالمهم في الأول والأخير هو المصالح الأمريكية, التي تتمثل في منطقتنا في ثلاث مصالح رئيسية: النفط وإسرائيل والموقع الاستراتيجي.. كلمة أخيرة.. إننا لم نقم بثورة علي الاستبداد والفساد.. كي نضحي بعد ذلك بالاستقلال!! عضو مجلس إدارة مركز البحوث العربية والإفريقية بالقاهرة مترجم وباحث في العلوم السياسية مدير تحرير مجلة إفريقية-عربية( مختارات العلوم الاجتماعية) مدير تحرير الطبعات العربية من المنشورات الأكاديمية للمجلس الإفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية من مؤلفاته كتاب' أزمة الوطنية المصرية'