شهدت السنوات الثلاثة الماضية عودة قوية للدور المصري الفاعل والمؤثر علي المستويين الإقليمي والدولي, فقد تمكنت مصر من أن تصبح طرفا مهما وأحيانا محركا لمجريات الأحداث والتفاعلات الدولية والإقليمية, وانطلاقا من كونها واحدة من الدول المؤسسة للأمم المتحدة, فقد تمكنت مصر من الاستفادة بوجودها في هذا المحفل الدولي وجعله واحدة من أهم النوافذ التي تطل من خلالها علي العالم لاستعادة دورها القوي إقليميا وعالميا, وبدا ذلك بوضوح في حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي علي المشاركة في كل الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة, ومواقف مصر الحاسمة إزاء العديد من القضايا الدولية. ولعل دور مصر الفاعل في الأمم لمتحدة هو ما دعم فوزها للمرة السادسة في تاريخها وللمرة الأولي منذ20 عاما بمقعد غير دائم بمجلس الأمن لعامي2017/2016, وقد أطلقت مصر خلال عضويتها العديد من المبادرات المهمة, ولعبت دورا محوريا في تعزيز الاهتمام بملفات عدة وعلي رأسها ملف مكافحة الإرهاب الذي نجحت مصر في إدراجه أجندة الأممالمتحدة, هذا بالإضافة إلي التحرك المصري في مجلس الأمن لدعم القضية الفلسطينية والذي يعد واحدا من أهم التحركات التي تبنتها مصر ونجحت من خلالها في توحيد معظم الدول, وتبني رأيا موحدا حيال القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وإذا تطرقنا إلي هذا البعد سنجد أن أهداف التحرك المصري في مجلس الأمن ردا علي قرار ترامب تجاوزت الأهداف التقليدية والمتعارف عليها في هذا الشأن, خاصة أن الفيتو الأمريكي كان متوقعا, بل ربما كان منتظرا, ولكن مشروع القرار اتجه إلي ما هو أبعد من ذلك, فيما يمكن النظر إليه بوصفه منحي جديدا في طرح والتعامل مع القضية الفلسطينية في المؤسسات والكيانات الدولية التي تعاني هيمنة عدد من القوي التي تحول دون قيامها بتدخل حاسم في العديد من الملفات وقضايا الصراع, فقد نجح مشروع القرار المصري في إبطال فعالية القرار الأمريكي ليس فقط كونه وضع الولاياتالمتحدةالأمريكية في موضع عزلة عن المجتمع الدولي, ولكنه أيضا ساهم في الكشف عن التباين الواضح في الموقف الدولي حيال القدس بين الولاياتالمتحدة والغالبية العظمي من المجتمع الدولي, بل إنه تجاوز أيضا تلك الدلالات أيضا ليثير العديد من علامات الاستفهام حول مشروعية القرار الأمريكي الحالي, ومقبولية التدخل والوساطة الأمريكية في القضية مستقبلا. وهنا يثار تساؤل جوهري مؤداه: هل حقق التحرك المصري في مجلس الأمن أهدافه؟ ولماذا اتجهت مصر إلي مجلس الأمن علي الرغم من أن استخدام الولاياتالمتحدة لحق الفيتو ضد القرار المصري كان متوقعا؟ بتأمل نتائج المشروع المصري وما تحقق من مكاسب قريبة وبعيدة جراء التحرك يظهر بوضوح أنه كان تحركا محسوبا بدقة, وأنه قد تم بدرجة عالية من الاحترافية, جعلت مجلس الأمن يقف مجتمعا ضد القرار الأمريكي, ويمكننا حصر أربعة مكاسب رئيسية حققها التحرك المصري في مجلس الأمن, المكسب الأول والرئيسي جاء عندما وضع القرار المصري الشرعية الدولية وجها لوجه أمام الشرعنة الأمريكية, فعلي الرغم من استخدام الفيتوالأمريكي وعدم استصدار قرار من مجلس الأمن, وعلي الرغم أيضا من أن قرار رفض الأممالمتحدة للقرار الأمريكي لن يكون له أثر قانوني ولكن أثره السياسي والأخلاقي لا يقل أهمية, خاصة أنه جعل الولاياتالمتحدة تقف بوصفها دولة مضادة للقانون الدولي, بعدما تجاوز موقفها منطقها مخالفة قواعد القانون الدولي ووضعها في موقف المتنمر, خاصة عقب ما أطلقته من تصريحات وتهديدات وتوعد للدول التي صوتت ضد مشروع القرار الأمريكي. ويتمثل المكسب الثاني من التحرك في تجريد القرار الأمريكي من شرعيته, ومنع انتقال عدوي القرار لباقي دول العالم مستقبلا, وقد نجحت مصر بجدارة في كسب تأييد جميع الأعضاء باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية, التي عكس استخدامها للفيتو فشلا دبلوماسيا واضحا ولعل وقوف الولاياتالمتحدة منفردة يعني أنها أخفقت في كسب التأييد وإحداث تأثير في المواقف الدولية الرافضة لقراراها, ولم تفلح الضغوط الأمريكية والتهديدات الفجة في تغيير الرؤي الدولية, خاصة بعدما جاءت جلسة الأممالمتحدة بنفس النتيجة تقريبا, حيث صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار الرئيس الأمريكي بأغلبية ساحقة عندما رفضت128 دولة القرار, بينما لم تؤيده سوي9 دول فقط, فيما امتنعت35 دولة عن التصويت, ورفض الاتحاد الأوروبي في بيان له القرار الأمريكي مؤكدا أن القدس لازالت منطقة مفاوضات بين البلدين حتي هذه اللحظة, ولم تفلح تحالفات إسرائيل في أفريقيا وجهودها المضنية في كسب ولاء الدول الأفريقية في التأثير علي موقف الاتحاد الأفريقي الذي أعلن رفضه التام قرار الرئيس ترمب. ويتمثل المكسب الثالث من التحرك المصري في كونه قد جعل سهام القرار الأمريكي ارتدت مرة أخري تجاه الولاياتالمتحدة لتصيبها في مصداقيتها أمام العالم وتجردها من دورها التاريخي كوسيط في القضية, بل إن بعض ردود الفعل جاءت بنقيض محتوي القرار الأمريكي, لنجد أن بعض الدول التي كانت تتجنب الحديث بصورة حاسمة حول مصير القدس تدافع بقوة عن الموقف الفلسطيني وتحاول خلق انحياز مواز للانحياز الأمريكي, فنجد علي سبيل المثال المندوب البريطاني ماثيو رايكروفت يؤكد أن القدسالشرقية ستبقي جزءا من الأراضي الفلسطينية, وأن بلاده لن تقوم بنقل سفارتها من تل أبيب إلي القدس.ولعل المكسب الرابع وليس الأخير الذي تحقق من مشروع القرار المصري, أنه ساهم في امتلاك الجانب الفلسطيني لأوراق ضغط مستقبلية تعزز موقفها في أي مفاوضات أو ترتيبات قادمة, لاشك سوف تضع في اعتبارها حقوق الفلسطينين المعترف بها بأغلبية كاسحة في مجلس الأمن, الذي ضربت الولاياتالمتحدة بالعديد من قراراته في هذا الشأن عرض الحائط, فقد ذكر مشروع القرار الذي قدمته مصر بعشرة قرارات لمجلس الأمن اعتمدت في الفترة من عام1967 إلي2016 وتؤكد أن مسألة القدس يجب أن تكون جزءا من اتفاق سلام شامل, ومن هنا يمكن أن يستخدم المفاوض الفلسطيني حجية القرار في أي مفاوضات يتم إجراؤها فيما بعد, وفي النهاية فإن القرار الأمريكي جاء بهدف شرعنة وضع القدس عاصمة لإسرائيل, ولكن تصويت مجلس الأمن أفقده هذه الشرعية, وأثبت بطلانه, وحتي في حال الإصرار الأمريكي علي الاستمرار في القرار فإن تكلفته ستكون باهظة, ليس فقط لأنه سيضع الولاياتالمتحدة بجانب إسرائيل كقوتين متمردتين دوليا, ولكنه أيضا يضع الولاياتالمتحدة في مأزق أمام المجتمع الدولي, فقد أسقط القرار المصري ورقة التوت عن الولاياتالمتحدة لتبدو عارية من رداء الحيادية, ويبدو انحيازها فجا وواضحا وهو ما سينتقص بلا شك من فعاليتها ويضعها طرفا من أطراف الصراع, ويجردها مما كانت تملكه من حقوق وساطة في القضية, بل إن نتائج التصويت تجاوزت القضية الفلسطينية لتطرح علامات استفهام حول إمكان لعب الولاياتالمتحدةالأمريكية دور الوسيط أو راعي عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.وفي النهاية فإن تمكن مصر من خلق هذا الإجماع, جاء ليبرهن علي نجاح مصر في تحركاتها الخارجية, ووضح ما شهده الدور المصري علي المستوي الإقليمي والعالمي من تحولات مهمة مكنت مصر من أن تقف في موقف الفاعل المؤثر في مسار الأحداث.