من العجيب تصور أن الرئيس الأمريكي شخص راغب في توريط كل مؤسسات الدولة بتصريحاته العشوائية العبثية, وكأننا أمام رئيس منتهي الصلاحية جعل الدور الرئيسي للآخرين هو التفرغ لقبوله أو هضمه. لو كان المشهد هكذا فعام واحد كاف جدا للقضاء علي تغلغل الولاياتالمتحدةالأمريكية ولجعلها في موقع مغاير تماما لما هي عليه اليوم بكل ما يحمله هذا الموقع من قوة وغطرسة في آن واحد. الواقع أننا أمام واشنطن التي نعرفها تماما, وأن لعبة تبادل الأدوار التي عودتنا عليها مازالت هي اللعبة المهيمنة علي سياستها. الفارق فقط هو في أسلوب ترامب الفج الذي يعكس شخصيته تماما, لكنه لا يعني من قريب أو بعيد أن هذا الرجل في شطط دائم عن قرارات المؤسسات الأمريكية الكبري. فهو رئيس طالته الاتهامات من قبل فوزه وحتي اليوم, ولو كان يمثل عائقا حقيقيا في السياسة الأمريكية لتم التخلص منه علي الفور, وهو ما تم بالفعل من قبل, سواء نيكسون أو حتي كلينتون الذي تم تقليص وجوده في نهاية ولايته علي الرغم من أن جريمته كانت أقل بكثير مما يصدره المشهد عن ترامب, فما بالنا بمن يورط الدولة بتصريحاته حول أزمة الخليج, وروسيا وإيران وإفريقيا قضية القدس بكل ما يمكن أن يتبعها من محادثات سلام, ناهينا عن ضربه عرض الحائط بالاتفاقات والكيانات الدولية, بداية من اتفاق المناخ نهاية بمكانة الأممالمتحدة التي لا يعيرها أي اهتمام. الفارق الوحيد بين دونالد ترامب وسابقيه يتمحور حول أسلوبه الذي غالبا ما يتميز بالوقاحة كما يوصف به, وهو في هذا أيضا ليس بالأحمق, بل يتعمده عند أداء دوره إرضاء منه لناخبيه لا أكثر ولا أقل. إن ما يبدو اليوم من صورة متكررة بشكل شبه يومي يصعب تصديقه أن يكون هو شكل الدولة حتي في أكثر بلدان العالم عشوائية, فما بالنا ونحن نتحدث عن الولاياتالمتحدةالأمريكية. الرئيس الأمريكي رأي أن الدوحة ضالعة تماما في دعم الإرهاب, فيما تصرح الخارجية بالعكس تماما, فماذا هي النتيجة؟ موقف مجمد لا يتحرك خطوة للأمام أو الخلف, وهو المطلوب تماما. الشيء نفسه بالنسبة للقدس الذي صدر ترامب للعالم أنه الرئيس الأشجع والأكثر صراحة مع المواقف, فيما لم يجرؤ أن يعلن موعدا لنقل العاصمة بشكل محدد أو حتي يصرح بوضوح أي قدس يقصد الشرقية أم الغربية أم القدس بجانبيها. طهران التي يتاجر بافتعال المشكلات معها, ماذا قال عنها وكيف غير المواقف الأمريكية؟ هل بمعاقبة بعض الشخصيات, أم بالتصريح بأنه سوف يدعم الاحتجاجات التي كانت في شوارع المدن في الوقت المناسب, أم بافتعال المشاكل مع أوروبا التي وضعها في الواجهة لتغير من بنود اتفاق لا يعجبه وهو يعلم أن هذا لن يحدث سواء بإرادة أوروبية أو إيرانية. ما بين تغريدة هنا وأخري هناك لإلهاء المراقبين تظل واشنطن تدير مصالحها بالكيفية نفسها ومن دون أي تغيير يذكر, اللهم إلا في بعض المواقف العادية جدا, التي يجهر فيها ترامب بنياته ويترك للجميع مساحات الاستهجان كما يحلو لهم, بينما هي نفسها ما كانت تحدث من قبل وتفاجيء العالم, مثل الضرب بقرارات الأممالمتحدة عرض الحائط, وليتنا نتذكر منذ متي كانت واشنطن تحترم هذه القرارات وتعتبرها الشرعية الرئيسية التي تنطلق منها. ربما نحن في زمن لا تحتاج فيه أمريكا لتنفيذ ما تريده من وراء ستار, أو أن تجعل من قراراتها صدمة تستغل الوقت لفرض إرادتها حتي يفوق منها العالم, بل جاء الزمن الذي تري فيه واشنطن أنها ليست في حاجة لهذه الأساليب, لهذا يبدو ترامب الشخص المناسب تماما في التوقيت المناسب.