عام1974 قبلت عملا صحفيا بمقر وكالة نوفستي في موسكو, ووقعت في القاهرة عقدا حول شروط العمل, وفي موسكو سألواني إن كان بالإمكان توقيع عقد بديل بالروسية لانه ليس في الإدارة من يتعامل بالعربية فوافقت, وأنا اراجع العقد وجدت الاجر يقل75 دولارا! وأمام استفساري المتهكم عما يفعله من يتشدقون بالعدل, قال لي الموظف المستفز, وهو يسحب كشف المرتبات ويطلعني عليه, إن الاجر في عقدي الجديد هو أكبر اجر في الوكالة, وهو اجر رئيس مجلس الإدارة, مبينا انني سأتقاضي الزيادة وفق قرار منفصل, جدير بالذكر هنا ان رئيس مجلس الإدارة كان شخصية صحفية كبيرة تولكونوف ترأست قبل الوكالة تحريرازفسنيا الصحيفة السوفيتية الثانية. واود ألا يذهب الخيال بعيدا فقد كنت مع تولكونوف حتي مع احتمال ان يكون له مخصصات إضافية في مقام الشحاذين مقارنة بالدخول الغربية والخليجية, إذ لايفي دخلنا بأكثر من العيش حياة معقولة ان لم تكن كريمة, ولم يكن الامر يخص تولكونوف وحده بالطبع, فحتي سقوط الاتحاد السوفيتي لم يكن فيه, ولعشرات من السنين, مشروع خاص واحد, حتي لو كان عيادة خاصة لطبيب, وكان اقصي مايحلم به أكبر ثري بعد شقة يسكن فيها, ان يدخر مايمكنه من شراء سيارة لادا. فمن أين وفق الواقع السابق تيسرت اموال الرأسماليين الذين اشتروا, بعد عام1991, المشروعات السوفيتية الجبارة, القائمة فوق مايزيد علي سدس مساحة الكرة الأرضية. وفق الأمريكي ديفيد هوفمان مدير مكتب واشنطن بوست في موسكو في كتابه الطغمة المالية الثروة والقوة في روسياالجديدة, قاد العملية المدعو تشوبايس أحد كهنة, الاقتصاد الذين رأوا السوق الحرة الدواء الشافي من كل العلل, والذي كلفه يلتسين بإدارة برنامج الخصخصة بعد عام1991, وكان مسئولا عن المشروع الذي قسمت فيه ملكية الصناعات السوفيتية القديمة التي اسهمت ووزعت علي عامة الناس, ويومها تلكأت الحكومة في دفع الأجور, ليبادر وكلاء فئة من رجال المال والتجار الأجانب ويجمعوا معظم الأسهم من الشوارع بسعر زجاجة الفودكا, وذلك ناهيك عن نشاط شركات تقديم قروض مقابل أسهم و.. وعلي هذا النحو برز عدد من المليارديرات اليهود في روسيا. وليس هذا رأي هوفمان وحده فقد وصف المالي الشهير جورج سورس الرأسمالية الروسية بأنها رأسمالية النهب والاغتصاب, بينما وصفها بوريس نيمتسوف رئيس الحكومة الروسية في النصف الثاني من التسعينيات بأنها رأسمالية قطاع الطرق و.. ولم يقتصر الأمر علي ذلك, فقد قرر الملياردير اليهودي بريزوفسكي: أكد التاريخ ان من حق رأس المال استئجار الحكم الذي يناسبه, وتم بالفعل تنفيذ ذلك في انتخابات الرئاسة عام1996, اذ اتفق طواغيت المال والإعلام الروس, مع حلفائهم العالميين, علي هامش مؤتمر دافوس ان يكون مرشحهم هو المغامر العتيد بوريس يلتسي ن, رغم ان الاستطلاعات وقتها لم تعطه أكثر من3% من اصوات الرأي العام.. لكن ذلك لم يكن يهم فقد كان الاستيلاء علي الثروة مقدمة للاستيلاء علي مقاليد الاجهزة الإعلامية المؤثرة, وعملها علي إشاعة نوع من الديمقراطية الرثة التي تعرف كيف تكرس مصالح المالك, مع غياب المؤسسات الفاعلة للمجتمع المدني وغياب حقوق الإنسان في فهم مايجري حوله بما يسهم في تحديد نمط حياته وحاضره ومستقبله, استولوا علي الأموال وراحوا يشترون اجهزة الاعلام مع كل شيء, بعد ان وضعوا القوانين التي تناسبهم وهكذا كانت الآليات الديمقراطية جاهزة بقدراتها الجبارة كي تصنع من الفسيخ شربات, كان شرطهم التسليم المطلق من جانب المغامر يلتسين باصول اللعبة: توزيع المناصب في الحكومة والكرملين, ناهيك عن توزيع ثروات البلاد عليهم مقابل ضمان فوزه بالمنصب, واصروا علي الزامه حدوده حين اتفقوا علي تعيين تشوبايس الذي كان يلتسين قد طرده قبل أشهر مشرفا علي حملة الرئيس لخوض الانتخابات! وعملت ماكينة الاعلام التي يسيطرون عليها, بينما كان فريق أمريكي متخصص يسهم في إدارة الانتخابات, تدعمه شعارات التحالف المالي الإعلامي التي تدافع عن حرية الكلمة والديمقرطية, ليفوز بها الديمقراطي الفذ, الذي قصف البرلمان بالمدافع, وسط تفهم عميق المغزي من الإدارة الأمريكية حامية حمي الديمقراطية في عالمنا. ومايهمنا هنا ان ماسبق جري بموافقة إن لم يكن بنصيحة المؤسسات المالية الدولية والأمريكية, التي باركت عملية النهب التي تعرضت لها مصر طوال السنوات السابقة, وطلبت منا قبل أشهر اللجوء إلي حل الصكوك الروسي السيء السمعة, فيما عرف ببرنامج إدارة اصول القطاع العام, وهي نفسها المؤسسات التي تعد اليوم بأن تمد يدها لمصر بالمعونة شريطة.. إذ أنها تؤكد أن ماتعد بتقديمه لنا ليس شيكات علي بياض, فهو رهن بتحقيق تقدم اقتصادي أكبر, ولاتسأل من وجهة نظر من فهذه المؤسسات كانت تكبل المديح لمؤشرات انظمتنا السابقة الساقطة الاقتصادية, لأنه لاتعنيها في شيء زيادة البطالة, واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء, وزيادة انكشاف الاقتصاد أمام المتغيرات العالمية, ومن ثم زيادة معاناته مما يحدث في الخارج من تقلبات. هذا كما ان كثيرا من المؤسسات التي تسعي إلي مساعدتنا علي انجاز التحول الديمقراطي اليوم هي نفسها التي ساعدت في حملة يلتسين الديمقراطية الشهيرة وذلك حتي لانقول انها التي تعاونت مع الحزب الوطني علي انجازاته الديمقراطية الفذة رغم انه كان يصارحها بأن أكثر مايود ان يعرفه هو ألعابها القذرة. دون الاعتماد اساسا علي قدراتنا الذاتية والعمل علي حثها دوما, لن تكون هناك قيمة إيجابية لأي عون خارجي.. ولن يحمينا شيء من رأسمالية وديمقراطية قطاع الطرق, وهي غير النظام الرأسمالي الذي ينطوي في مجتمعاته علي قيم إيجابية كالعمل والعلم والاتقان و... يسعي تحت ضغط عامليه في أوروبا وآسيا إلي بناء مجتمعات الرفاء.