تساؤلات عديدة حول الخطوة المقبلة في سياق الصراع بين الحكومة المركزية في بغداد وبين حكومة إقليم كردستان فرضتها عملية استعادة الجيش العراقيلكركوك والمناطق المتنازع عليها بينهما, علي خلفية تداعيات عملية الاستفتاء التي جرت في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي. فقد مثلت إستراتيجية بغداد في المواجهة السريعة والحاسمة لنتائج الاستفتاء كبحا لتطلعات أربيل وتطلعات رئيسها مسعود بارازاني تحديدا; فجاءت عملية السيطرة المفاجئة علي كركوك دون خسائر كبيرة نتيجة لانسحاب قوات البيشمركة من مواقعها حول الحقول النفطية ومؤسساتها ومطارها العسكري, ثم السيطرة علي المناطق محل الخلاف في محافظات نينوي( سهل الموصل), وديالي, وصلاح الدين; لتؤشر علي واقع جديد في العلاقات البينية ينتهي فيه الجدل بشأن طموحات الإقليم ونتائج الاستفتاء وتطلعات الاستقلال, وتبدأ فيه مرحلة جديدة حول مستقبل العلاقة بين بغداد والإقليم ومصيره في ضوء التطورات الأخيرة. فقد حملت النقلة النوعية التي قامت بها الحكومة العراقية تجاه نتائج الاستفتاء الكردي العديد من الدلالات: أولها: يشير إلي نجاح بغداد في تجريد الإقليم من المناطق التي كان يرغب في ضمها لحدوده الجيوسياسية في كركوكوالمحافظات المتنازع عليها, ما يعني فقدانه لمصادر الطاقة النفطية التي كانت ستمثل له مصدرا رئيسيا للدخل, وهو أمر غاية في الأهمية بالنظر إلي وطأة الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها الإقليم, فضلا عن عدم قدرته علي الوفاء بمستحقات مواطنيه من أجور ومرتبات. ثانيها, يشير إلي تقليص أوراق التفاوض التي كان يضغط بها مسعود بارازاني علي الحكومة المركزية في بغداد, بل ووضعه هو وحزبه الحزب الديمقراطي الكردستاني في موقف تفاوضي ضعيف أمام بغداد لن يتيح له أي هامش من المناورة بشأن اقتسام عوائد النفط; سواء بالنسبة لآبار البترول الموجودة في الإقليم بحدوده الثابتة- أربيل والسليمانية ودهوك- أو الموجودة في كركوك بعد أن خرجت الأخيرة من سيطرة حكومة الإقليم لتصبح تحت الإدارة المباشرة للحكومة المركزية. ثالثها, يتعلق بعودة الخلافات الكردية البينية للظهور علي سطح المشهد السياسي في كردستان, بل ونجاح بغداد في استغلالها واللعب علي وتر التناقضات في الرؤي بين أحزاب الإقليم الكبري, وتحديدا بين حزب الاتحاد الذي كان يتزعمه جلال طالباني الرئيس العراقي السابق قبل وفاته, وبين الحزب الديمقراطي بزعمة مسعود بارازاني بشأن ماهية مشروع الاستقلال وتوقيت طرحه, ونجاحها كذلك( أي بغداد) في الاتفاق مع مسئولي حزب الاتحاد في السليمانية وكركوك لحل الخلافات بينها وبينهم بعيدا عن أربيل وبانتهاج الطرق السلمية. هذا فضلا عما يمثله دخول قوات الجيش العراقي المناطق المتنازع عليها وحصارها للإقليم نفسه- دون مقاومة فعلية وملموسة من جانب قوات الإقليم- من انكشاف لهذا الواقع الكردي المتردي والمتشرذم أمام المواطنين الأكراد الذين بنوا آمالا ضخمة بشأن إقامة الدولة الكردية المستقلة, والتي تبخرت معظمها علي وقع خطوة البارازاني غير المدروسة. رابعها, يشير إلي دور العامل الإقليمي الخارجي في حسم الصراع بين بغداد وأربيل لصالح الأولي; وتحديدا الدورين الإيراني والتركي بدءا من محاصرة الإقليم وغلق حدودهما معه, مرورا بموقف تركيا في التهديد بوقف تصدير نفط الإقليم عبر خط أنابيب جيهان تركي, ونهاية بنجاح إيران في الاتفاق مع حزب الاتحاد الكردي عبر قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني علي انسحاب قوات الحزب العاملة ضمن قوات البيشمركة الكردية من مواقعها لصالح قوات الجيش الاتحادية, الدور الإيراني تحديدا يؤشر علي استمراية التأثير الإيراني في المشهد العراقي عبر علاقة التحالف الموجودة بين طهران والحكومات الشيعية المتعاقبة التي تولت السلطة في بغداد منذ عام2006 وحتي الآن. خامسها, يتعلق بموقف الولاياتالمتحدة التي أعطت موافقتها لبغداد للقيام بهذه النقلة النوعية بالرغم من كون الأكراد سواء في العراق أو سوريا يعتبرون حليفا إستراتيجيا لها في المنطقة, بل ومعولها القادم في رسم خريطة النفوذ والسيطرة في منطقة المشرق العربي حال الانتهاء من محاربة تنظيم الدولة, البعض يري أن موافقة واشنطن علي إجهاض بغداد لحلم الاستقلال الكردي يتعلق بمقتضيات التوقيت الإقليمي والدولي الراهن وما تفرضه من تحديات, ولا يعني تخلي كامل من قبل واشنطن عن الحليف الكردي. بمعني أن واشنطن قررت معاقبة بارازاني علي عدم الامتثال لنصائحها بتأجيل خطوة الاستفتاء لمدة تتراوح بين عام وثلاثة أعوام قادمة تكون قد انتهت فيها من مواجهة تنظيم الدولة, علي أن تساند واشنطن بعدها خطوات جادة إما تجاه حصول الإقليم علي مزايا جديدة لكن في إطار العلاقة الفيدرالية التي تربطه ببغداد, وإما بدعم جاد وفعلي لخطوات انفصال الإقليم عبر عملية تفاوض دولية إقليمية واسعة وممتدة. الدلالات السابقة تنقلنا لتحليل سيناريوهات الخطوة التالية; أي الإجابة علي تساؤل وماذا بعد؟ ثمة عدة سيناريوهات تشكلها طبيعة العلاقات بين بغداد وأربيل خلال الفترة القادمة: السيناريو الأول: البدء في حوار بين الحكومة الاتحادية والإقليم, هذا الحوار تزداد فيه حظوظ الموقف التفاوضي لبغداد في مواجهة أربيل ولاسيما بعد فقدان الأخيرة نصف مساحة الآراضي التي كان يسيطر عليها الإقليم, فضلا عن سيطرة بغداد علي عوائده النفطية ومطاره العسكري في كركوك ومحاصرة حدوده في أربيل والسليمانية ودهوك; أي فقدان الإقليم معظم إن لم يكن كل أوراقه التفاوضية. البعض يري أن واشنطن ستتجه إلي تخفيف حدة التوتر بين الجانبين خلال الفترة القادمة عبر تدشين حوار فعال; لأن حالة التوتر لا تخدم مصالحها الآنية في محاربة ما تبقي من تنظيم الدولة, كما أن مزيدا من التعبئة العسكرية بين الطرفين في بعض البؤر الحدودية للإقليم- وتحديدا في كركوك ذات التنوع العرقي والمذهبي- من شأنه الدفع نحو سيناريوهات الفوضي وربما الحرب الأهلية, هذا فضلا عن الخلافات بين الحزبيين الكرديين- الحزب الديمقراطي وحزب الاتحاد- والتي ترتبط بحواضنهما الشعبية في كل من أربيل والسليمانية, وما يعنيه ذلك من احتمالية دخول الإقليم نفسه في حالة من المواجهات الداخلية التي قد تسفر عن تداعيات تزيد من وطأة المسئوليات العسكرية علي الحكومة الاتحادية في بغداد. السيناريو الثاني: إخراج مسعود بارزاني رئيس الإقليم من المشهد السياسي الكردي; هذا السيناريو سيكون نابعا من داخل الإقليم نفسه وعبر قواه السياسية; ولاسيما بعد أن أثبت خطأ حساباته وقراءاته السياسية للواقع الإقليمي والدولي, وتفسير ذلك أن ثمة اتجاها لدي أحزاب الإقليم حزب الاتحاد وحركة التغيير ولدي قواه السياسية والاجتماعية من التركمان والإسلاميين إلي تشكيل حكومة إنقاذ وطنية تتولي إدارة الإقليم في فترة انتقالية تكون مهمتها; معالجة تداعيات الاستفتاء, وإدارة الحوار المأمول مع بغداد, والإعداد لانتخابات برلمانية في الإقليم والتي كان مقررا لها أول نوفمبر المقبل. حظوظ هذا السيناريو تتوقف علي نوع وحجم التباين والخلافات بين القوي الحزبية للإقليم, والتي تؤشر علي صعوبة التوافق علي تشكيل تلك الحكومة في الوقت الراهن. فثمة من يري أن واشنطن قد تدفع بغداد من ناحية والأحزاب الكردية من ناحية أخري إلي القبول ببقاء بارازاني فترة محددة من الوقت يتولي خلالها إدارة الحوار مع بغداد, والذي سيكون حوارا غاية في الصعوبة علي أربيل, نتيجة لخسارتها كل أدوات الضغط التي كانت تمتلكها في مواجهة بغداد. السيناريو الثالث: المواجهة المسلحة داخل الحدود الرسمية لإقليم كردستان, بعد أن تمكنت بغداد من السيطرة علي المناطق المتنازع عليها; وبعد إعلان تمركز قواتها المسلحة عند الحدود الإدارية للإقليم. هذا السيناريو لا ترغب فيه بغداد نظرا لأنه سيفتح بابا لحروب داخلية نوعية تزيد من وطأة التحديات العسكرية عليها, خاصة في ظل أن جزءا كبيرا من قدرات بغداد القتالية موجهة نحو تنظيم الدولة. فضلا عما ستنتجه تلك المواجهة من مظلومية جديدة سيعاني منها الأكراد, تضاف إلي رصيد المظلوميات التي عانت منها مكونات المشهد السياسي والاجتماعي العراقي علي مدار الأربعة عشر عاما الماضية; كالمكون السني الذي عاني مزيدا من التهميش والإقصاء فضلا عن سياسات الانتقام الطائفي من قبل المكون الشيعي الذي تولت قواه السياسية الحكم طوال السنوات الماضية. يمكن القول أن أزمة استفتاء إقليم كردستان قد عكست حقيقة أن الواقع الإقليمي والدولي الراهن لم يكن مواتيا لمنح الإقليم استقلالا كاملا عن الدولة العراقية; وأن حسابات المصالح الإقليمية بين العراق ودول جواره لازالت تشكل المحدد الرئيسي لتعاطياته الخارجية, وهي تعاطيات تتقاطع بالضرورة مع مصالحها في العديد من الملفات أبرزها ما يتعلق بالقومية الكردية التي تتواجد في إيرانوتركياوسوريا بخلاف العراق. أما علي مستوي الداخل فتجدر الإشارة إلي مسئولية مسعود بارزاني عن التداعيات الناتجة عن خطوة الاستفتاء غير المدروسة جيدا فحساباته لم يجانبها الصواب, ما جعلها تصطدم بعدة إرادات إقليمية ودولية تعاونت علي إجهاض مشروع الاستقلال علي الرغم من تعارض مصالحها في العديد من الملفات في المنطقة. ووفقا لحسابات المكسب والخسارة يكون البارزاني وحزبه والشعب الكردي أبرز الخاسرين, بينما منحت الأزمة العبادي والمكون الشيعي ومن وراءهم إيران مزيدا من المكاسب التي ستترجم فعليا في توجهات الناخبين خلال الانتخابات التشريعية المزمعة في مايو2018 القادم, وعليه فإن إعادة وضع الأكراد داخل الخريطة السياسية في العراق, وفقا لمكتسابتهم القديمة التي منحتهم حكما ذاتيا في إدارة شئونهم, ستخضع بالضرورة لعدة مراجعات عراقية وإقليمية ودولية أغلب نتائجها لن تكون في صالح الإقليم. باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجة