استكمالا فلا تزال أمريكا تتقلب علي جمر النار, لا تزال تقتحمها الشكوك, ويملأها الرعب, وتخترقها الأوهام, ويعلو اليأس هامتها, لا تزال مائجة مضطربة بعد أن سحبت أحداث سبتمبر المشئوم منها أرصدة الثقة والكبرياء والكرامة, وأبقت لها مساحات هائلة من الغضب والغطرسة فلم يعصمها هذا ولا ذاك من إزاحة القلق والتوتر القابع في العقل الأمريكي, والمتناثرة شروره في الشوارع والمدن الأمريكية. تري ما الذي يتهدد أمريكا مجددا؟؟ هل كان من المتوقع- أو حتي من المستحيل- أن تنشب أخطار أخري؟ ولماذا تلجأ أمريكا لإنشاء وزارة للأمن؟ ولماذا تعترف وكالة الأمن القومي الأمريكي ولم تعترف قبل هذا بأنها تلقت يوم العاشر من سبتمبر تهديدات أقلها كان الصيغة الرمزية: المباراة تبدأ غدا.. وغدا هو اليوم المحدد, ولماذا لم تتحسب لذلك؟ هل أصبحت أمريكا دولة مخترقة داخليا أو خارجيا حتي أنها قد تتهددها مخاوف وتوجسات ربما لو صدقت هذه المرة لأطاحت بمفهوم الأسطورة الأمريكية بين أقطار الكرة الأرضية؟ نعم.. مفاجأة جديدة يشهدها التاريخ الأمريكي المعاصر, مفاجأة تؤكد عناصرها أن البيت الأبيض تسكنه أشباح سوداء أولها الخوف والهلع وآخرها الرعب والفزع, وذلك حين خلا من اسم البشر ورسمه بعد أن حلقت في مجاله الجوي المحظور الطائرة سيسنا, والتي اقتربت لمسافة ستة كيلو مترات من البيت الأبيض, ولم يتمكن المراقبون الجويون من ملاحقتها أو سرعة الاتصال بها, وقد انطلقت مقاتلات حربية اقتادت الطائرة إلي ريتشموند بولاية فيرجينيا بعد أن تأخرت كثيرا, وقد تبين أن قائد الطائرة لن يحاكم بتهمة ارتكاب جرائم فيدرالية; إذ إنه لم تكن لديه أي نية إجرامية مهددة للأمن القومي الأمريكي, فقد دخل المجال الجوي للبيت الأبيض دون تعمد, ورغم ذلك فقد رأي الكثير من مسئولي الأمن الأمريكي ضرورة أن تفرض عليه بعض العقوبات الرادعة من قبل هيئة الطيران المدني, بينما أوضح بريان مار- الناطق باسم الشرطة السرية آنذاك- أن الظروف الجوية هي التي أجبرت الطيار- الذي كان من المفترض أنه كان متجها إلي ولاية نورث كارولينا- علي القيادة في مسار مختلف تماما, مما أدي إلي دخوله تلك المنطقة المحظورة بطريق الخطأ!! وكل ذلك لا شك قد طرح في الذاكرة الأمريكية تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر, واحتمالات تكرارها, والآثار المتوقعة من ورائها, وردود الفعل الأمريكية, كما طرح العديد من التساؤلات الملحة مثل: هل توجد ثغرات أمنية لدي البنتاجون؟ هل أصبح المجال الجوي الأمريكي هدفا للصدفة ونهبا للأخطاء غير المتعمدة؟ هل يمكن تصور أن أمريكا- التي تزعم إمكان إقرار الأمن العالمي- قد تبحث يوما عمن يحميها؟! هل أمريكا- التي تزعم بكل هيبتها وترسانتها العسكرية أنها تقاوم الإرهاب-ستكون هي أول فريسة له؟! يأتي كل ذلك في إطار واقعة أخري هي أكثر كاريكاتيرية من الأولي; فبعد أن تساءل العالم أجمع: كيف وقعت أمريكا في فخ سبتمبر ولديها أجهزة استخباراتية ذات كفاءة بالغة, تبين أخيرا علم هذه الأجهزة بالتفاصيل الدقيقة لهذه العملية, والتي قوبلت بكل استهانة وتهكم, وها هو التاريخ يعيد نفسه وبالوقائع ذاتها والتلويحات نفسها; إذ تلقي مكتب التحقيقات الفيدرالي تحذيرات خاصة من هجمات إرهابية محتملة لبعض المنتمين لتنظيم القاعدة في احتفالات عيد الاستقلال الأمريكي. مما استدعي علي أثر ذلك أن تكون الشرطة في لاس فيجاس في حالة تأهب كامل, وتقوم باتخاذ العديد من الإجراءات الأمنية المشددة حول كل ما يمكن حدوثه في جميع الأماكن التي تعتبر هدفا أساسيا لأي هجمة إرهابية منتظرة. وقد لا تشير هذه الواقعة بالطبع إلا إلي توالي صيحات الانتقام من أمريكا; باعتبارها محور الشر ومملكة الظلم في العالم, بما يؤكد ضرورة الالتفات إلي الشعوب المقهورة, وإعادة النظر في إستراتيجيتها الأمنية, والتقليل من نرجسيتها المفرطة, والإيمان بأن القوة المعنوية والروحية ربما تكون ذات أثر في محو زهوها, وأن قيادة العالم تحتاج إلي تأهيلات أخري غير ما تملكها أمريكا, أولها العدل وآخرها السلاح النووي, ولتستشعر أمريكا أولا أن الخطر قد يأتي من الداخل, وهو قد أتي بالفعل.