يحلو للبعض أن يعيش في الماضي. فيطلق عليه أسماء تعكس رغبته في العودة اليه, مثل الزمن الجميل, وزمن الرقي والتحضر; بالنسبة لهؤلاء الماضي كامل متكامل, فهو الذي شهد أجمل الاغاني والموسيقي في الفن, وأرقي الأزياء, وأفضل الأخلاقيات, وأهم السياسات; يري هؤلاء أن مصر كانت في هذا الماضي دولة عظمي!! وأن القاهرة كانت أجمل عاصمة في العالم!!! وكأننا نتحدث عن وطن هلامي لا يعيش إلا في خيالنا. ما لا يدركه هؤلاء البعض أن الماضي, وإن كان بعضا منه جميلا بالفعل إلا أنه لم يكن كله كذلك, في الناحية الفنية وبالرغم من أنه كان هناك مطربون علي أعلي مستوي مثل أم كلثوم, وكلمات علي أرقي مستوي مثل كلمات أحمد رامي وشوقي وحافظ وغيرهم, الا انه في نفس الوقت كانت هناك أغاني هابطة مثل الحب دح دح, والكره كخ كخ, وغيرها من الأغاني التي لا ترقي لمستوي فني عال. وإن كان هناك مفكرون وفلاسفة وعلماء أمثال طه حسين وعلي مشرفة وتوفيق الحكيم وغيرهم, إلا أنه كان هناك أيضا من ينتقدهم بشدة, ويهين الدكتور طه حسين ويصفه بالأعمي; وبالرغم من أن الدكتور مشرفة كان من أفضل العلماء وعمداء الكلية, وعمل علي أن تصل العلوم الي الانسان العادي, الا أنه كان هناك من حاربه وبشراسة مثل الملك فاروق نفسه, الذي غير قانون الانتخابات في الجامعات وجعله بالتعيين حتي لا يعاد انتخاب مشرفة عميدا. وإن كانت شوارع القاهرة في ذلك الوقت هادئة ونظيفة, الا انه لحظة الخروج خارج العاصمة نجد شوارع المدن الأخري غير مؤهلة أو نظيفة; حتي ان الإسكندرية التي يحلو لهؤلاء البعض التحسر علي تاريخها الحافل بوجود الأجانب فيها وصفها الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير في كتابه رحلة الي الشرق بأنها مدينة غير شرعية فقدت هويتها فلا هي غربية, ولا هي شرقية; وإن كانت الطبقات العالية والارستقراطية ترتدي أفضل الثياب التي استقدمت من باريس, الا ان سائر الشعب كان يعاني من الفقر ويسير حافي القدمين. أما من الناحية السياسية فلا ننسي أن مصر كانت دولة محتلة ينهبها المحتل كل يوم لصالح تقدمه هو. ويعامل المصريين أصحاب الوطن كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة. إن التغيير هو قانون الطبيعة. فلا يبقي شيئ علي حاله; إن لم يتحرك يموت. ذلك ينطبق علي الدول كما ينطبق علي الانسان. فالدول التي لا تتغير مع الزمن, ولا تتطور, تتحجر وتموت; والانسان الذي يعيش في الماضي فقط, ويرفض التأقلم مع الحاضر والمشاركة في صناعة المستقبل, هو أيضا يتحجر ويموت. يقول الفيلسوف الامريكي وين داير في كتابه حكمة الدهر في فصل بعنوان: الآن, كيف أن السفينة التي تبحر تخلف وراءها ذيلا من الأمواج, والسفينة تمثل حياة المرء, وما يقود السفينة هي الطاقة التي يضخها الحاضر فتدفع بالسفينة الي الأمام; ويتساءل داير: هل من الممكن أن يقود السفينة ذيل الأمواج الذي تتركه وراءها؟ والاجابة هي أن ذلك لا يمكن أن يحدث أبدا; فالماضي لا يمكنه بأي حال من الأحوال دفع حياة المرء أو الوطن الي الأمام; فالذيل هو مجرد ذيل لا يمكن التشبث به, لأنه يتلاشي بمجرد دفع السفينة الي الأمام. الاصبع يكتب. وحالما كتب يتحرك الي الأمام. لكل زمان جماله وقبحه; ولكن المهم ألا نعيش في الماضي فيصبح قيدا يمنعنا من أن نصنع مستقبلا.