لكل رواية مفاتيح الدخول إليها، ومحاولة تناولها، والرواية مثل الحياة مليئة بالتنوع والتدفق ويمكن أن ينطبق الأمر علي رواية الكاتب الراحل إدريس علي «1940 2010» المعنونة «اللعب فوق جبال النوبة» التي صدرت لأول مرة عام 2002. تجمع هذه الرواية بين الذاتي والمتخيل، وتعبر عن رؤية المؤلف للعالم المحدد بمنطقة النوبة وأيضا العالم الواسع من حولنا، حيث إن الكاتب يسبغ من آرائه الشخصية وفكره علي أبطال الرواية من ناحية، وأيضا من خلال رأيه الشخصي المباشر، وذلك أسوة بأغلب أبطال روايات الكاتب الأخري، وهي «دنقلة» 1993، «وقائع غرق السفينة» 1994، «انفجار جمجمة» 1999، «النوبي» 2001، «الزعيم يحلق شعره» 2009. وفي الرواية التي نحاول التعرف علي أفكار الكاتب ورؤيته، سوف يتضح لنا أن إدريس علي قد وقف ضد الجميع، معبرا عن رأيه بشكل مباشر، وقف ضد المكان، والأشخاص، والظواهر رغم أنه كرار بارع، حكي لنا قصة ذلك الصبي النوبي الصغير المليء بالتمرد والحمية، والذي انبهر بالفتاة النوبية، ناصعة البياض، غادة التي أرسلها أبوها من القاهرة إلي جدتها، كي يبعدها عن القاهرة، بعد أن أحبت شابا من غير عشيرتها، فأحس الأب بأن الأمر يمس شرفه، وفي النوبة، صار عليها أن تغير من إيقاع وسلوك حياة البنات، وأن تغير أيضا من حياة الصبي الذي طلب أن يتزوجها، ثم هرب معها.. وفيما بعد أن أمسكوا بهما، هربت من جديد كي تموت في ظروف غامضة علي أيدي الإرهابيين في حي إمبابة. في مقال سابق توقفنا بشكل مختلف ومختصر عند هذه الرواية وبإعادة قراءتها مرة أخري يمكن التعرف علي رؤية المؤلف الذي يقف ضد الجميع سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر، فالمؤلف هنا صاحب رأي فيما يجري من حوله، يكسبه أحيانا لأبطاله، أو يسرده علي لسانه، والراوية هنا صبي صغير، قليل الخبرة والتجربة، لكن من حكيه للرواية نكتشف أحيانا أن الرواية تدور في لا زمن، فالناس في هذه المنطقة من العالم لا يعرفون حركة عقارب الساعة، كما أن المدخل يدور بعد أن قتلت غادة علي يدي الشرطة تقريبا، وظهرت كجثة إلي جوار جثة الإرهابي الشهير الملقب بأمير إمبابة، أي أن الأحداث، دون الإشارة إلي الزمن، تدور هنا ما قبل عام 1994. إلا أن الكاتب يشير إلي أي زمن في الرواية، وهو يقول علي لسان بطله الصبي: كانت بلادنا مغلقة علي نفسها تمارس الحياة، وفق تقاليد موروثة، صارمة، متخلفة، لا تتطور ولا تتغير. تقوم الثورات في الشمال والجنوب، ويتبدل الحكام فلا تتأثر.. إلي آخر فقرة طويلة وقف فيها الكاتب ضد البيئة التي نما فيها، وكتب عنها وكان هذا أول أنواع الوقوف ضده.. حيث يقول أيضا في الفقرة نفسها: «وكانت لدينا مفاهيم مشوهة وخاطئة فنظن أهل الشمال كلهم «حكومة» من البيض الأشرار الذين بنوا الخزان لإغراقنا وأفكارنا، ونظن أهل الجنوب السود جدا، لهم ذيول ويأكلون لحوم البشر. أي أن المؤلف لم يخجل أن يضفي علي أبناء عشيرته تلك الصفات، مؤكدا أنهم يعيشون علي هامش الكون، وهذا ليس رأيي، بل هو رأي المؤلف الذي يقف ضد الجميع في أعماله، وخاصة هذه الرواية. وفي الفصول الأولي من الرواية، حكي الراوية عن نفسه، وعن جده وأبيه، وعن سنة ميلاده، لكنه من فقرة لأخري يرشق أبناء عشيرته بما يؤكد أنه ضدهم «كل هذه تخمينات مرتبطة بتقاليد أهل قريتي المرتكزة علي الخرافة والغيبيات..» ووصفه لبعض الرموز الإنسانية التي هي أيضا موجودة في جميع القري المصرية شمالا وجنوبا، مثل الحلاق الذي يخرب الأجساد بأمواسه، ومساميره، وأدويته البلدية المكونة من الأعشاب وكاسات الهواء. وقد وصف الكاتب نفسه من خلال حكيه، كيف كان متمردا، لا يقبل الأمور بسهولة، يحاول قبل أن يفهم أو يقنع، سواء فيما يخص باختلاف ألوان البشر رغم أنهم خرجوا من ضلع آدم مع حواء، أو سواء وهو يحاول حفظ السور الصغيرة بعد أن يفهمها، وأن يقتنع بها. هذا الصبي الصغير سيجد تحرره، يلتقي مع فتاة الشمال، البيضاء، النوبية غادة، هي أيضا مثله من الصعب أن تمتثل بسهولة، وهي سريعة الصدام مع من حولها، منذ وصولها إلي القرية الجبلية التي تسكنها جدتها حتي هربت منها أكثر من مرة، نحو الوادي. أي أن المؤلف وبطله لم يقفا وحدهما من الجميع، بل أيضا هناك الفتاة غادة التي وصفها الكاتب في كلمات مختصرة، بدت أمامه جميلة الجميلات، ثم صارت متمردة، ثورية، تسعي لتغيير المجتمع الذي جاءت إليه، فهي منذ لحظة وصولها الأولي ترفض أن تضع الشال عليها «إيه القرف ده».. كما أن المؤلف علي لسان الصبي عبر عن رأيه في اللغة النوبية، قائلا عن كلام غادة: وهذه لغة جديدة ساحرة غير لغتنا وفصحي المدرسة ولغة القرآن، تنطقها البنت بطريقة سهلة ومدهشة، لقد وقعت في عشق لغتها من أول لقاء. عبر الكاتب عن تمرده من خلال رؤي الفتاة للمكان الذي نفيت إليه، فعلي لسان المؤلف يري أن المكان الذي جاءت إليه غادة موحش كئيب. كما وقف الكاتب ضد زواج النوبي بامرأة بيضاء من خارج عشيرته، فقد أنجبت هذه البيضاء فتاة مثلها في اللون، وإن كانت الأم ممتثلة لزوجها، فإن غادة صارت متمردة، كأنها الكائن الالبيتو في علوم الوراثة لا تنتمي إلي أي من الجانبين اللذين أفرزاها.. قال «ما عندناش بنات تتجوز من بره.. لازم واحد نوبي. بره إيه وجوه إيه ونوبي إيه؟ طب إزاي؟ ما بابا اتجوز ماما.. يعني حلو للرجالة وكخ علي البنات. وقد وصف الكاتب الزوج النوبي الذي تزوج في العاصمة بامرأة بيضاء بأنه الرجل الغيور، وعلي لسان ابنتها فإن «الزوجة شافت نجوم الضهر مع بابا. أصله كان بيغير عليها من نسمة الهوا، وحبسها، لا تفتح شباك ولا تبص من بالكونة، ولا تروح السوق ولا تزور أهلها..» وقد أسهب المؤلف في وصف سمات هذا الأب في صفحتين متتاليتين. وقد وصف المؤلف القاهرة أيضا مدينة مليئة بالمتناقضات، مثل بقية أماكن مصر، حيث إن هناك تناقضا ملحوظا بين حياة ساكنيها، حيث مستوي الحياة وتبوح غادة أنه في شغل أبيها، كانت الفلوس مكومة فوق الموائد مع لاعبي القمار.. أما أهل أمها فقد كانوا «أغلب من الغلب» كانوا يأكلون فول وطعمية، العائلة كلها محشورة في غرفة مثل الفراخ، وهي أسرة أنجبت المزيد من الإناث، تتزوج أي فتاة منهن بمن يدفع، ويأخذ الزوجة كأنها السلعة. في الفصل العاشر من الرواية وأغلبها فصول قصيرة، وصفت غادة التناقض الاجتماعي الملحوظ الذي عاشت فيه أسرة أمها، والمستوي الاجتماعي الذي انتقلت إليه بزواجها بالأب، لكن رغم هذه المكانة الاجتماعية، فإن الرجل أوصلها إلي حد الجنون من كثرة الضرب، وأيضا من الاستخدام السيئ لجسدها، دون تلميح بالغ الوضوح. إذن لقد وقف الكاتب ضد الفقر الذي يدفع الأسرات لتزويج البنات مقابل النقود، وجميع زيجات الأسرة التي تنتمي إليها الأم كانت نتائجه بالغة السوء، مأساوي النهاية، فمن تزوجت ليبيا أو أفريقيا يعمل في سفارة بلاده.. وقد حكت الفتاة لعمر الطفل الصغير ذي التسع سنوات أن أباها قد تزوج بامرأة نوبية كانت تشعر بالغيرة من ضرتها الراحلة البيضاء، فعاملت غادة بكل قسوة. في الرواية كل ما يعرفه عمر عن القاهرة جاء فقط علي لسان غادة، وهي تحكي له عن الأشخاص والأماكن، وتأتي المفارقة بين الأماكن والأشخاص من خلال المقارنة، مثلا بين إمبابة والكيت كات ثم منطقة النوبة التي جاءت إليها هي متمردة وليس المكان مليئا بالحنين مثلما نري في روايات أخري كتبها أبناء النوبة مثل الراحل إبراهيم فهمي، وقد أسهب إدريس علي في هذه المقارنات لصالح المدينة، مهما كان فيها من سلبيات، فالكاتب ضد عدم وجود دلائل الحضارة الحديثة بالإضافة إلي القيظ الشديد. وأمام هذا الوقوف «الضد» من غادة فإنها ظلت علي تمردها، لم يحدث لها أي تحول أو تطهر نحو المكان وألهبت مشاعر التمرد لدي الصغير الذي طلب أن يتزوج بها، فلما فشل في إقناع الجميع بوجوب الزواج بها، هربا معا. غادة كانت لها طريقة مبتكرة في التلقين لاقتحام العقول الصدئة. إذن لقد أكسب المؤلف هذا الموقف الضد والتمرد الملحوظ لبطله الصغير الذي أوقعه في الحب بشكل مبكر، وهو الذي لم يفهم معاني الزواج الجنسية، حيث بدا ذلك من خلال حواراته مع الكبار، حين طلب الزواج العلني بغادة التي تكبره في السن، ورغم مداعباته للفتاة، إلا أنها لم تستثر فيه حسه الجنسي، باعتبار أن هذا لم يحدث بعد، ولعل عمر هنا يختلف عن أفلام عالمية رأيناها، مأخوذة عن روايات، عاش أبطالها الصبية في سنوات الحرب العالمية الثانية تجربة الحب الأول، وحرقوا فراش الفاتنة الأولي في المدينة أو القرية مثلما شاهدنا فيلم «صيف 42» لروبرت موليجان عام 1972، وأيضا «ميلاني» لجوزيبة تورناتوري 1998، وقد تكررت هذه التجارب في أفلام إيطالية عديدة. أما في الرواية، فقد وجد عمر ضالته في الفتاة التي تشبهه في التمرد كما أن الفتاة التي احتفظت دوما بعذريتها رغم كل هذا التمرد الذي يوحي في مجتمعاتنا بجميع أشكالها بأن مثل هذه الفتاة قد فقدت أغلي ما لديها. أو ما لدي الإناث الشرقيات بشكل عام.