كنت ممن توقعوا أو علي الأقل تمنوا أن يأتي مهرجان الجونة السينمائي, الذي تقام دورته الأولي حاليا وتختتم الجمعة المقبل, مختلفا عن غيره من المهرجانات الفنية والسينمائية المصرية, ليس فقط لأن ميزانيته تبلغ عشرة أضعاف نظيرتها في القاهرة السينمائي الدولي 90 مليون جنيه تقريبا مقابل تسعة ملايين فقط ولكن أيضا لأن القائمين عليه والمسئولين عنه أعلنوا أنهم سيطبقون أحدث النظم والوسائل العالمية في إقامته وتنظيمه, إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهيه سفننا, وولد المهرجان معاني من معظم آفات مهرجاناتنا الأخري, وأبرزها الانتقائية والانشغال بالمظهر عن الجوهر. أما الانتقائية, التي تتلخص بلغتنا الدارجة في نظرية الخيار والفقوس, فتمثلت في تفضيل فناني الدرجتين الثانية والثالثة عن الصحفيين المصريين في حضور حفل الافتتاح الجمعة الماضي, رغم أن الصحفيين يذهبون إلي مثل هذه الحفلات لتغطيتها وأداء عملهم, وليس لالتقاط الصور مثل غيرهم.. وامتدت الانتقائية إلي صفوف الصحفيين أنفسهم, فتم اختيار عدد قليل جدا منهم لحضور الحفل بدعوي أو بزعم أنهم يمثلون باقي زملائهم, وهو ما رفضه الصحفيون مؤكدين أن أحدا لا يمثلهم أو ينوب عنهم, خاصة في تأدية عملهم. وشملت قرارات إدارة مهرجان الجونة الانتقائية أن يشاهد الصحفيون وحدهم الحفل, ثم فيلم الافتتاح شيخ جاكسون, علي شاشة بعيدة عن قاعة الافتتاح, وأن يحتفلوا بالمهرجان وحدهم بعد ذلك بعيدا عن حفل الاستقبال الذي أقيم لعلية القوم, وكأنهم مصابون بمرض معد يخشي علي المشاهير منه! وعبثا حاول مدير المهرجان, انتشال التميمي, احتواء غضب الصحفيين عندما توجه إليهم بعد عرض الفيلم, حيث رفضوا محاولات الترضية لرفض الإدارة إصدار بيان اعتذار للصحفيين, مما أدي لانسحاب بعضهم ومغادرتهم الجونة بالفعل مساء أمس الأول. باختصار: مفيش فايدة.. مازلنا نصر علي أن المهرجان السينمائي سجادة حمراء وبذلة سوداء وفستان عار, وأن حفلات الافتتاح والختام لا تصح إلا إذا سبقها عرض فني أو غنائي لا معني ولا قيمة له من إخراج مخرج مسرحي ربما لم يشاهد فيلما في حياته, وأن ممثلي التليفزيون ومطربي وراقصات الدرجة الثالثة أولي بالدعوات من النقاد والصحفيين والباحثين! وكم صرخنا وصرخ غيرنا بأن المهرجان السينمائي ليس حفلات بل أفلام جيدة وتنظيم دقيق وضيوف مهمون وسوق فيلم كبيرة وحقيقية لكن ما من مجيب.. فالرغبة في الظهور والتقاط الصور والتسجيل للفضائيات أكبر, وعقدة المهرجانات الدولية الكبري تجعل تقليدها بشكل أعمي الشغل الشاغل للمسئولين عن مهرجاناتنا, لكنهم للأسف يقلدون السجادة الحمراء فقط من دون التنظيم المذهل وسائر المظاهر والتظاهرات السينمائية والأفلام والندوات التي جعلتها الأهم علي مستوي العالم. وأتذكر تجربة المخرج الإيطالي الشهير ناني موريتي في رئاسة مهرجان تورينو السينمائي الدولي قبل سنوات قليلة, حين كان نجم حفلي الافتتاح والختام اللذين أقيما بكل بساطة وشياكة من دون عروض فنية سخيفة أو سجاجيد, ومن دون اشتراط ارتداء الملابس الرسمية للرجال والملابس العارية للنساء.. فقد تولي موريتي تقديم الحفلين بنفسه واقتصرت كلماته علي تحية الموجودين من كبار المخرجين والفنانين وتوجيه الشكر لمن ساعدوه في إدارة المهرجان.. وأعقب كلمته مباشرة في حفل الافتتاح عرض الفيلم الذي اختير للمناسبة وأعقبها في حفل الختام إعلان الجوائز عن طريق رؤساء لجان التحكيم.. ولا شيء أكثر من ذلك! وحتي لا نظلم الجونة, فإن جميع مهرجاناتنا بلا استثناء تعاني من الانتقائية, لكن كان علي مسئوليه أن يبلغوا الصحفيين بالحقيقة قبل الافتتاح بأيام حتي لا يتكبد مشقة السفر سوي من يوافق علي هذا الوضع.