العظماء من أمثال الزعيم الخالد عبدالناصر لا تجود بهم الامم والشعوب كل يوم لكنهم يظهرون في فترات متباعدة لأداء أدورهم المقدورة لهم ثم تنطوي صفحتهم ليصبحوا بعد ذلك حديث الأجيال المقبلة. وليس من الضروري ان يكونوا قد أتموا رسالتهم التي جاءوا لابلاغها والتبشير بها, بل يكفي ان يضعوا العلامات علي الطريق لتستهدي بها الانسانية في مسيرتها نحو تحقيق الأهداف العليا التي جاءوا من أجلها. ولكن عبدالناصر لم يقف عند حد ابلاغ الرسالة والتبشير بها.. حقا كان عمره قصيرا(52 عاما) ولكن حياته كانت خصبة حافلة تخللتها احداث جسام تردد صداها وانعكست آثارها علي العالم أجمع. وغادر الدنيا بعد ان قطع اشواطا بعيدة في طريق النضال من اجل تحرير شعبه وكل الشعوب المناضلة في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية بل وفي كل ركن من اركان المعمورة انبعث منه صوت يدعو الي الحق والحرية والتقدم والسلام القائل علي العدل. عبدالناصر هو صانع مصر الثورة.. مصر المعاصرة ومصر العصرية واذا كان من الحق ان نقول إن الطاقات التي فجرها في الشعب المصري كانت كامنة فيه فمن الحق ايضا ان نقرر انه هو الذي جعلها تنبثق في ضوء جديد وفي اطار جديد خيل الينا معهما اننا نراهما لأول مرة. وكان هذا الاسلوب الجديد في الفكر والحياة الذي قفزنا اليه بوجود الزعيم بيننا ومن ثم فعبدالناصر هو الذي اعاد الينا الروح واعادها الينا متفتحة لان الروح قد تعود الي الافراد والشعوب وتظل مع هذا في حالة من الركود. وتجسدت عودة الروح في عهد عبدالناصر في تلك الزهور الكثير المتفتحة والبراعم التي تنبض بالحياة التي سقاها هو من افكاره وآماله شرابا طهورا. ان مفجر ثورة يوليو كانت له فلسفته في الثورة وهي انها اولا فلسفة رفض للوضع القائم وثانيا انها فلسفة تحرر من الاستعمار وثالثا انها فلسفة عمل وهي فلسفة قوة البناء وارادة التغيير والثورة فلسفة انفتاح بمعني تفاعل الزمان والمكان ورفض لكل صور العزلة; فالحاضر ثمرة للماضي من جهة وحركة نحو المستقبل من جهة اخري والثورة فلسفة تغيير. كان الزعيم يؤمن ان قصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوات يملأها الهباء, وليس فيها مفاجآت تقفز الي الوجود دون مقدمات. وان كفاح أي شعب جيلا بعد جيل بناء يرتفع حجرا فوق حجر وكما ان كل حجر من البناء يتخذ من الحجر الذي تحته قاعدة يرتكز عليها, كذلك الأحداث في قصص كفاح الشعوب, كل حدث منها هو نتيجة لحدث سبقه وهو في نفس الوقت مقدمة لحدث في رحم الغيب. وكان الزعيم يسابق الزمن ويستبق الاحداث واثقا ان الانسان هو الذي يصنع التاريخ وهو الذي يحقق مصيره بنفسه ولنفسه. و مضي الزعيم بعد وقفة قصيرة بيننا لكنها خلاقة. أخذنا فيها من ركود ماضينا الي وثبات مستقبلنا, دون أن ينسي أن نحمل في أيدينا تراثنا الحضاري زادا في رحلة التحدي الطويلة. واضعا في ايدينا منهجه ومنهاجه, الملهم, ومضات نور نسترشد بها في متاهات الطريق. كان الكفاح حقا سلاحه وقدره. كان لا يشكو بل يشحذ ارادته وهو من أول يوم له في الحكم حتي وفاته, لم يخرح من معركة الا ليدخل معركة. لذلك احبه شعبه وامته ولا يمكن ان يبتعد أو يغيب.