دائما ما يراودني السؤال, ويلح علي ليلا ونهارا, يطاردني في قيامي ومنامي, يملأني بالأمل قليلا, ويردني حزينا, حسيرا كثيرا.. والسؤال الذي أشقاني: هل نحن جديرون بإرث حضاري ضخم.. يقدره العالم كله, ونتجاهله نحن.. يدركون قيمته, ونحن لا نعرفها أو نعرفها ولا نبالي بها تحت ضغوط حياتية رهيبة فوق طاقة البشر. هل نراها من الرفاهيات في زمن نجري فيه, بل نلهث خلف لقمة العيش التي أصبحت صعبة وبعيدة المنال..أم أن هناك من شغلنا بما هو أدني حتي لا نفيق إلي ما هو أكبر وأغلي وأكثر نفعا.. أم كل هذه الأسباب اجتمعت علينا لتنفذ إرادة الله فينا ؟ لم أكن متشائما في يوم من الأيام, ولن أكون, هكذا يراني كل من عرفني,ولكنني شعرت بغصة في الحلق, ومرارة في النفس عندما تابعت مؤخرا خبرا عن إصدار متحف تورينو الإيطالي مجموعة من كتب التلوين والألعاب والألغاز المقدمة للأطفال لتعريفهم بالحضارة المصرية القديمة بشكل مبسط. وزاغت عيناي, وجرت علي سطور الموقع الرسمي لمتجر المتحف, وهي تقول إن الكتب التي أصدرها المتحف تقدم معلومات كثيرة للأطفال حول جوانب من الحياة المصرية القديمة.. فتحكي, وتجيب علي السؤال: ما هي المومياوات, وما هي تماثيل الأوشبتي, والحيوانات التي كانت موجودة في مصر القديمة, وتبرز مجموعة كتب التلوين لاكتشاف الحيوانات في مصر القديمة, حيث كان في مصر القديمة الكثير من الأرباب والمعبودات وكانت مرتبطة بحيوانات معينة مثل ابن آوي والصقور وأبو منجل والتمساح.. وكان المصريون القدماء يعتقدون أن بعضها يجلب الحظ والخير, إضافة إلي مجموعة كتب أخري مثل كتاب تلوين المومياوات وكتاب ملصقات المرح وحياة الفراعنة, وكتاب الحياة اليومية للمصريين القدماء. شعرت بالخجل, وأنا أمر علي ما فعله وما يفعله الآخرون تجاه هذا الكنز الثمين الذي نطمسه ونشوهه, ونسييء ترميمه وحفظه ونقله بدلا من العناية به والحفاظ عليه.. والأزمة هنا ليست فقط في عدم إدراكنا للمعني العميق لهذا التاريخ العريق الذي تتمني كبريات الدول والأمم لو أن لها نسبة ضئيلة منه, ولكن في تكاسلنا عن تطوير هذا الإرث الحضاري المتفرد في الدنيا بأثرها, وعدم الاستفادة منه في مجالات العلم والطب والصيدلية والرياضيات والهندسة لكشف أسرار عظمتهم, بل في المجالات الاجتماعية والإنسانية من منطلق أن آثارهم ليست مجموعة مبان مبهرة وخالدة فقط نحدث الدنيا عنها دون أن نفهم سرها, ولكن أيضا لغة وديانة وآداب وفلسفة وعقائد تعكس الفكر المتقدم لأجدادنا ووعيهم المتفتح وإدراكهم العميق.. وكل هذه قدره الآخرون ولم نفهمه نحن, واكتفينا بكلمات الإعجاب والتشدق بهم في المجالس وعندما نعثر علي سائح نطمع من ورائه في بعض الدولارات دون أن نخطو خطوة واحدة نحو الكنز العظيم الذي تركوه لنا, ولم نكلف أنفسنا عناء البحث عنه, وكأننا ننتظر أن يعودوا من مرقدهم مرة أخري ليشرحوا لنا كيف أنهم تفوقوا علي كل حضارات الأرض في أنهم لم يعبدوا أصناما, ولم يقدموا الأضاحي البشرية, بل آمنوا بالحساب واليوم الآخر والحياة الأبدية, وفوق كل هذا أرسوا نظاما, وأسسوا لعلاقات تحكم العلاقات بين الناس مثل السلام والعدل والصدق والخير.. إلي متي نظل علي هذا الحال, عميانا لا نري إلا ما يقدمه الغرب لنا, وما يكتشفونه من أسرار وحكايات يشيب لها شعر الولدان؟.. يا سادة نحن أولي بثروات أجدادنا!