الثورة تغيير هائل. والتغيير الثوري لا يحدث بين عشية وضحاها. ومع ذلك لا بد أن تكون معالم التغيير واضحة من البدايات ليستقر في الوجدان أن الثورة وقعت فعلا, وأن التغيير المرتقب منها موجود في نهاية الطريق الذي يفتحه الشعب الثائر لنفسه في واقع سياسي واجتماعي واقتصادي كان مغلقا أمام التغيير بإحكام. وحدوث ثورة بهذا المفهوم من شأنه وقوع زلزال في الدولة التي تحدث فيها الثورة, وكذلك في المنطقة التي توجد فيها الدولة, وفي دول العالم التي لها مصالح كبيرة في المنطقة. وقد وقع الزلزال الثوري العربي في تونس, تلتها مصر, ثم ليبيا واليمن والبحرين وسوريا. وكان من شأن تفجر الثورات في تلك الدول, وهي الثورات التي يسميها محللون( الثورة العربية الكبري) حدوث ارتباك خطير في المنطقة, خاصة في إسرائيل, وحدوث ارتباك خطير في الولاياتالمتحدة وأوروبا. لكن للحقيقة ساد هذا الارتباك في المراحل الأولي من الثورة العربية الكبري, أي في تونس ومصر. فقد كان البادي في أول الثورة العربية أن العالم العربي متجه إلي قطع صلته مع واقعه الداخلي, وإنشاء واقع جديد أهم سماته التماس أسباب القوة الذاتية, وتأسيس روابط جديدة مختلفة مع محيطه( ممثلا في إسرائيل وتركيا وإيران) تقوم علي أساس ما تغير في الداخل, وتأسيس روابط جديدة مختلفة مع المحيط العالمي متمثلا في الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية في الأساس. لكن لم يمض وقت طويل حتي خف الارتباك. وكان من علامات ذلك أن الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية بدأت تطبق من جديد المعايير المزدوجة تجاه ثورات الربيع العربي. فقدم الغرب مساعدات ضخمة من أجل إسقاط العقيد القذافي خدمة للثورة الليبية, لكنه منع أي مساعدة كبيرة عن ربيع البحرين التي توجد فيها قاعدة الأسطول الخامس الأمريكي التي يهدد نجاح الثورة وجودها. بل إن هناك ما أوحي بانتهاء الارتباك الإقليمي والغربي بالكامل, وقد تمثل ذلك في أن الكونجرس الأمريكي أيد بكل قوة خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي ألقاه أمامه قبل أيام علي الرغم من أن هذا الخطاب حطم المرجعيات المعترف بها عالميا لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية تحطيما. وكان الأمر باديا في صورة ربما تثير السخرية, وهي أن أعضاء الكونجرس الأمريكي صفقوا لنتنياهو55 مرة وقوفا, كأن الرئيس السوري بشار الأسد يخطب في مجلس الشعب السوري الذي يبصم للرئيس علي ما يريد, أو كأن الرئيس السابق حسني مبارك يخطب في مجلس الشعب المصري الذي كان يبصم للرئيس علي ما يريد. واللافت للنظر أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما وافق علي ما قاله نتنياهو. وقد كان هناك في واشنطن علي سبيل المثال خوف هائل من الثورات العربية( في البداية) تلاه انبهار بها, خاصة مشاهد الثورة المصرية المرسومة يوما بعد يوم في ميدان التحرير, تلاه إعجاب. فعلي الرغم من أن الثورات العربية راح الخوف منها يخف فإن الإعجاب بها لم يفارق الأمريكيين. فقد غيرت الثورات العربية ما كان عصيا علي التغيير وما كان مستحيلا التفكير في أنه ممكن. فما الذي جعل الخوف الهائل يخف إلي انبهار يخف إلي إعجاب؟ إنها الثورة المضادة, أي القوي الداخلية والإقليمية والدولية التي وقفت ضد الثورة في هذا البلد العربي أو ذاك. فهناك ثورة مضادة في تونس تمثلها القوي السياسية والاقتصادية والمالية المنظمة التي كانت تعمل مع نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي, وهي قوي لها مساندوها في الغرب. وهناك شيء من هذا القبيل يحدث في مصر إلي جانب ضغوط عربية من أجل ألا تصل الثورة المصرية إلي آخر المدي. وفي ليبيا تسببت لا وطنية القذافي وكتائبه في إسقاط الثورة في فم الأسد الغربي. وشيء شبيه بذلك يكاد يحدث ويمكن أن يحدث في اليمن وسوريا لولا عدد السكان الكبير الذي يجعل التدخل العسكري الأجنبي مخاطرة شديدة. فهل انتهي مطاف الثورات العربية وصارت أحداثها مجرد لوحات جميلة توضع في المتحف الوطني لكل بلد؟! بالطبع لا. وأقتطف هنا كلمات للكاتب البريطاني الكبير روبرت فيسك كتبها في صحيفة الإندبندنت البريطانية يوم الاثنين يقول فيها: العرب يمضون قدما في أداء مهمة خطيرة هي تغيير عالمهم. إنهم ينظمون المظاهرات أو يحاربون ويموتون من أجل حرية لم يسبق لهم أن ملكوها.