تأخذنا الحياة إما بأولوياتها أو بمشكلاتها أو بمهامها, وأخيرا بكمالياتها, فلا نجد فرصة لأهم ما فيها, وهو أنفسنا, فنحن نجد الكثير من الوقت لكل شيء في الحياة, حتي للآخرين, فنحن نجالسهم ونحادثهم, وننازعهم, أما أنفسنا, فلا نجادلها ولو برهة قليلة من الوقت لكي نقترب منها ونتعامل معها عن قرب, وكأننا في حالة خصام دائم معها, أو كأننا نهرب منها, حتي لا تواجهنا بعيوبنا وقصورنا, فأين نحن من أنفسنا, لماذا لا نسترخي ونتعايش معها؟! أعلم أن أصعب حوار يدور, هو الذي يدور بين الإنسان ونفسه, لأنه غالبا ما يخلو من المراوغة والنفاق, فهو حديث خلق من أجل المصارحة, ولكن ليس دائما الجلوس مع النفس يكون للعتاب أو جلد الذات, فلماذا لا يكون للمكافأة والترفيه والاسترخاء, ولماذا لا نتصالح مع أنفسنا, ونجعل من جلوسنا وحوارنا معها قمة السعادة, باختصار, لماذا لا نحب أنفسنا كما هي, ونحاول الاقتراب منها والتصالح مع عيوبها؟ فالإنسان لابد له أن يجعل لحياته معني آخر, وقيمة أخري بجانب العمل والمهام والمشاكل والأولويات, فلو أدركنا أن العمر قصير للغاية, ما أضعنا لحظة منه من غير متعة ورضاء عن أنفسنا, ولابد أن نتذكر دائما أنه مهما كانت مشاغلنا, فالوقت قطعا متاح للحظة استرخاء واستمتاع, نشعر فيها أننا خرجنا من الدائرة المغلقة التي لا تسمح سوي بالتعامل مع أساسيات الحياة, فيجب علي كل إنسان أن يقتنص وقتا ولو يسيرا من يومه ليمارس شيئا يحبه, فيخرج به من روتين يومه الممل, ويجد فيه نفسه ببراءتها, ومتعتها, وفطرتها, بدون رتوش أو زيف أو هموم. فقد كان هناك بروفيسور قد وقف أمام تلاميذه, وهو يحمل معه الوسائل التعليمية, وعندما بدأ الدرس وجلس الجميع في أماكنهم, أخرج زجاجة كبيرة فارغة وبدأ يملؤها بكرات الجولف, ثم سأل التلاميذ:هل هذه الزجاجة مملوءة أم فارغة؟..فأجاب الجميع أنها مملوءة, فأخذ البروفيسور صندوقا صغيرا من الحصي, وقام بتفريغ محتوياته في الزجاجة, فتخلل الحصي الفراغات الموجودة بين كرات الجولف, ثم سألهم البروفيسور من جديد:هل الزجاجة مملوءة أم فارغة؟..فأجاب الجميع بأنها مملوءة, فأخذ صندوقا يحتوي علي الرمال وسكب محتوياته فوق الزجاجة, وهكذا ملأ الرمل باقي الفراغات الموجودة بالزجاجة, وعاد يسأل التلاميذ من جديد ذات السؤال, فأجابوا بذات الإجابة. ثم أخرج البروفيسور فنجانا من القهوة, وسكب محتواه داخل الزجاجة, فضحك التلاميذ, وبعد أن هدأ الضحك, بدأ البروفيسور في الحديث قائلا:الآن, أريدكم أن تعرفوا القصة, هذه الزجاجة تمثل حياة كل فرد فيكم, وكرات الجولف هذه تمثل الأشياء الضرورية التي لا غني عنها في حياتكم, مثل أداء الواجبات الدينية, ومراعاة الصحة والأهل, واحتواء الأسرة, وصلة الرحم, ومساندة الأصدقاء, أما الحصي, فهي الأشياء المهمة في حياتكم, مثل الوظيفة والمنزل والسيارة, والرمل هو الكماليات والأمور البسيطة والهامشية, كالاهتمام بالعطر والهندام والمأكولات الطيبة..ثم قال:حدد أولوياتك, والبقية مجرد رمل, فلو صرفت كل وقتك وجهدك وطاقتك للأشياء التافهة, فلن يتبقي لك مكان للأمور المهمة والضرورية في حياتك, اجعل أولوياتك الضرورية والأمور الهامة, وثق دائما أنك ستجد الوقت الكافي للحصي والرمال. وحين انتهي البروفيسور من حديثه, رفع أحد التلاميذ يده قائلا:إنك لم تبين لنا ما تمثله القهوة..فابتسم البروفيسور..وقال في بساطة:لقد قمت بإضافة القهوة فقط لأوضح لكم أنه مهما كانت حياتكم مملوءة ومشغولة, فسيبقي دائما هنا مساحة لفنجان من القهوة. والمقصود بفنجان القهوة هنا, مساحة الراحة والاسترخاء, والمتعة التي لو فقدت فلن يكون للحياة معني أو طعم, وستتحول إلي مأموريات لا تنتهي. لذا علينا أن نتيقن أنه لا غني لنا عن فنجان القهوة.