أصبح المسلم في هذه الأيام حجة للكافر علي كفره, وفتنة له يضل بها عما أقام الحق من أعلامه, فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله الذي أخذ به الأمم السابقة فضلوا فضربهم بأنواع من عذابه في الدنيا, واستبقي لهم ما لانهاية له من الشقاء في الآخرة, ظهر فيهم بصور مختلفة, ثم جاء في أكمل صورة ببعثه خاتم الأنبياء, مستتما لنوره, مكملا لأمره, لتقوم به الحاجة, وتتضح به المحجة, وأصبح هذا القول بألف دليل كلها أوضح من الشمس, وأنفي للشك من ضوء البدر لظلام الليل. هذه الكلمات من رسالة مطولة كتبها الشيخ محمد عبده الي السيد محمد رشيد رضا, الجزء الثاني, تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده, محمد رشيد رضا, مطبعة المنار,.1931 يستمر الإمام بعدها مباشرة مجيبا علي ما طرحه, ومشخصا: رأيت علة واحدة تهدم كل ما بني من الأدلة وهي: لو كان الإسلام دينا صحيحا ما وجدنا أهله المستمسكين به( في زعمهم) علي ما نري من فساد الأخلاق, وسقوط الهمم وضلال العقول, هكذا أيها الحبيب أصبحنا فتنة للذين كفروا... فلو فقه المسلم لابتعد جهده عما يجعله فتنة للكافر, ولكان همه في أن يكون بكماله قذي في عين أعدائه, لا أن يكون حقيرا في أعينهم, ضحكة لهم في محافلهم. ما أحوجنا الي فكر الإمام محمد عبده في هذا الزمان, وما أحوجنا الي كل ما نوه إليه ونصح به في كل كتاباته, والي آرائه وآ ماله وأمانيه, والي علومه ومعارفه الإسلامية, والي أخلاقه وشمائله, والي دفاعه عن الإسلام والدعوة إليه بالتقريب بين المسلمين وأهل الكتاب, والي مذهبه في الإصلاح والي فتاويه. نحن في حاجة الي كتبه ومقالته وخطبه ورسائله. سنتعرض اليوم الي بعض رسائل الإمام العظيم, لنري جانبا من تلقائية العظمة, نكتشف أنه كرس نفسه لخدمة الدين والقيم, وكيف أنه استخدم كل قدراته في حشد همم الحكام والمحكومين وتوعيتهم وطلب مساهمتم من خلال تلك الرسائل. كتب أيضا الي السيد محمد رشيد رضا في رسالة اخري: أوصيك بتقوي الله, وصدق الحديث, والوفاء بالعهد, وأداء الأمانة, وترك الخيانة, وحفظ الجوار, ورحمة اليتيم, ولين الكلام, وبذل السلام, وحسن العمل, وقصر الأمل في الدنيا وقصد العمل, ولزوم الإيمان, والتفقه في القرآن, وحب الآخرة, والجزع من الحساب, وخفض الجناح, وإياك أن تسب حكيما, أو تكذب صادقا, أو تطيع آثما, أو تعصي إماما عادلا, أو تفسد أرضا. أوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر. وأن تحدث لكل ذنب توبة, السر بالسر, والعلانية بالعلانية. وكتب الي أحد شيوخ التصوف:.. فإنه من نعم الله علي, ولطف إحسانه الي, ما أودعه في فطرتي من الميل الي الخيرة من أهل ملتي, فلا أزال لهم طالبا, وفي الصلة بهم راغبا, خصوصا من تجمعني بهم وحدة التربة, وتضمني إليهم جامعة النسبة. فألهمت أن أفتح إليكم باب التعارف, وشنشنة المؤمنين التراحم والتعاطف.. وأما الإخوة التي عقدها الله بين المؤمنين, وإن أهملت عند كثير من الغافلين, إلا أنها لم تول والحمد لله تلحظها بصائر الغافلين, وتصبو للاعتصاب بها قلوب الصادقين. فإنما الأخوة مظهر سر المحبة, والمحبة تجلي سر الجذب الإلهي الذي يجمع الله به أرواح الصديقين الي حضرته القدسية.. وكما يكون التعاون والأماكن دانية, يكون والأقطار نائية, وخير المعونة ما عاد الي الأرواح بتزكية وصلاح.. وأرجو أن يجعل الله في مكاتبتنا بركة ذلك كله إن شاء الله. فسركم ظاهر, وضياؤم باهر, وميلي إليكم معلول, واهتمامكم بالإجابة مأمول, والله ينفعنا بالتواد, ويبلغنا به غايات المراد. وكتب الي الي أحد أصدقائه: لا يميل بك عن طريق الحق قلة السالكين فيه, فوالله إني لا أري المؤمن في جيش من يقينه, وحصن من ثقته بربه, يثبت بهما في المزالق, ويدرأ بمنعتهما غائلات المهالك, وإنه لفرح به إذا حزن الناس, ومبتهج فيه إذا اشتد البأس, واستحكم اليأس, وإني لأري المنافق في مزعجات من وساوسه, وموحشات من خسائسه, وإنه لسريع الهزيمة, قليل الغنيمة, وما كنت لآتي في وصفه شيئا بعد ما قص الله عنه في كتابه, وكتاب الله حي لا يموت, شاهد علي الأحياء كما شهد علي الأموات, وما كان المنافقون زمن نزول القرآن ليختلفوا في الحقائق والصفات, عن أشباههم من أهل هذه الأوقات, فتوخ من نفسك ما أثني الله عليه, وتنح بها عما وجه اللائمة اليه, وإياك والأعاليل, وفاسد التأويل, فإنها حبائل الشيطان, ومذهبة الإيمان. وكتب الي أحد أمراء المسلمين في بعض الأقطار عند تأسيس جمعية العروة الوثقي:.. ساق اليقين جماعة من المسلمين الي السعي في خير هذه الملة المغلوبة, واعتصموا بالله, وليس علي الله بعزيز أن ينجح سعيهم, يسعون في إرجاع الوحدة الملية, وتنبيه الحاسة الدينية, ليمكن للملة أن تتقي الضيم وتخلص من الذل, ولهم في هذا السعي طرق عديدة منها ما ندبونا إليه وقد علمت خبره ولله الحمد علي ظهور ثمرته في أقطار كثيرة, أفلا تري من الواجب أن يكون لهمتك نفحة في مساعدتهم وتعضيدهم في سعيهم؟. أنت تعلم أن الأعمال العظيمة في هذا الزمان, وفي كل زمان تحتاج الي التضافر في الأفكار والتعاون في النفقات كل بما يقدره الله عليه, ولست أخشي أن أقول لك سيد القادرين علي الأمرين, لا يخطر علي بالي أن يمنعك من الدخول فيما دخلوا فيه من يأس, كيف وأنت مؤمن, والمؤمن لا ييأس, وقد رأيت العالم وقرأت التاريخ وشهدت مساعي الأوربيين ووقفت علي حقيقة لا يكابر فيها أحد أن الكثير من القليل والكبير من الصغير وأن النجاح مقرون بالأمل والثبات في العمل, فإن لم يكن يقينا بالله كافيا في حياة آمالنا أنه يكفينا النظر في شئون أعدائنا وهم لا يمتازون عنا في شيء من خواص الخلقة وغاية ما عندهم أنهم لا يحقرون عملا ولا يقطعون أملا ولا يأخذ أحدهم رهبة في آداء ما يوجبه عليه دينه ووطنه. ينتقل الإمام بعد ذلك الشرح والتوضيح والواجب والتحفيز والتحريض للأمير المقتدر وشحذ همته ولفت نظره الي واجبه في رسالته, أن يطلب مساندته الواجبة, فيقول: لا أتوهم خيبة في سعي الي همتك, ولا تقصير منك في القيام بخدمة ملتك, بعد ما رأيت ما نزل بها, وإستطلعت ما سيطرأ عليها, والله لا يضيع أجر العاملين. وكتب الي أحد العلماء أرسل إليه رسالة وسأله فيها عن عن إنكاره علي من قال إن لفظ الرحيم في البسملة توكيد للفظ الرحمن, وإنكاره أن يكون في القرآن ألفاظ زائدة للتأكيد, وفيه وصف علماء السوء, فكتب موضحا ومشجعا علي الوقوف في وجه كل جاهل وكل متكبر, كل من يقحم الدين الحنيف في صغائر الأمور والبدع والجهل: أثابك الله علي صدق مودتك, ونفعني بإخلاص الصادقين من أمثالك, ووفقني الله وإياك للعمل فيما يفيد الأمة, التي أنهكتها البدع, وقتلها الزيغ عن الطريق المتبع... لا أزيدك وصية بمزاولة البحث فيما ينقي العقائد من شبه الإشراك, وغرور اليأس والأمل, وجراثيم التواكل, ثم نشر ذلك بكل وسيلة تمكن منه ثم بالصبر علي ما يقول المقلدون, ويهذي به المتكبرون, ممن يلقبون بالعلماء وهم لا يعلمون. أسأل الله أن يعينك علي من يليك, ويوفقك لتأييد كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه... لم يسبق في التاريخ أن أحدا ذهب الي أن الرحمن معبود والرحيم معبود آخر, حتي يرد عليه بأنهما شيء واحد. وكتب الي من سأله عن القدر والاختيار واختلاف العقل والوجدان في ذلك قائلا: لم يتخالف العقل والوجدان في مسألة القدر, فإن كليهما يتفقان علي صحة الاختيار, ونفي الاضطرار, فيما هو من الأعمال البشرية المعروفة, ولا يتنازعان في حكم من أحكام هذا الاختيار. ثم هما يتفقان كذلك في حكم من أحكام هذا الاختيار. ثم هما يتفقان كذلك في الحكم بأن صانع هذا الكون محيط بدقائقه علما, وهاتان العقيدتان هما ركن الإيمان بالله ورسله وشرائعه, ولم يبق إلا نزعة من نزعات الوهم, تستفز العقل الي اكتناه حقيقة العلم الإلهي, وليست مما يصل إليه من طريق الفكر, فإذا كبح العقل جماح الوهم, وقف عند حده, وذاق حلاوة الإيمان الصحيح, وإلا وقع فيما لا مخلص منه من الريب والشكوك..ويكفي أن العقل والوجدان لا يختلفان في الحكم بصحة الاختيار وشمول العلم الإلهي, ونفوذ قدرة الله فيما لا إختيار لنا فيه, وفي هبة قوة الإختيار نفسها ولعل ذلك يكفيك. كتب رسائل عديدة أخري الي كل سائليه, ولم يضن بعلمه علي أحد منهم, وكان في جميعها شارحا موضحا ومشجعا. كما كتب الي بعض من عظماء وقته, ومنهم الكاتب والفيلسوف الروسي الكبير تولستوي عندما حرم من الكنيسة الروسية, وهي تحفة أدبية رائعة, كما أوردها تلميذه السيد محمد رشيد رضا في الصفحة623, الجزء الثاني, تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده, مطبعة المنار,1931: أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي: لم نحظ بمعرفة شخصك, ولكنا لم نحرم التعارف مع روحك, سطع علينا نور من أفكارك, وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك, ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله الي معرفة سر الفطرة التي فطر الناس عليها, ووقفك علي الغاية التي هدي البشر إليها. فأدركت أن الإنسان جاء الي هذا الوجود لينبت بالعلم, ويثمر بالعمل. ولأن تكون ثمرته تعبا ترتاح به نفسه, وسعيا يبقي به ويربي جنسه, وشعرت بالشقا الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة, وبما استعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها- فيما كدر راحتهم, وزعزع طمأنينتهم. ونظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد, ووصلت بها الي حقيقة التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس الي ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه فكما كنت بقولك هاديا للعقول, كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم, وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي بها الضالون, كان مثالك في العمل إماما يقتدي به المسترشدون, وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء كان مددا من عنايته للضعفاء والفقراء, وإن أرفع مجد بلغته وأكبر جزاء نلته علي متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سماه الغافلون بالحرمان والإبعاد, فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوي اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين, فأحمد الله علي أن فارقوك في أقوالهم كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم, هذا وإن نفوسنا لشيقة الي ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك وإنا نسأل الله أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قوالك ويفتح القلوب لفهم قولك ويسوق النفوس الي التأسي بك في عملك والسلام. كتب إليه رسالة أخري قال له فيها: أيها الروح الزكي, صدرت من المقام العلي, الي العالم الأرضي, وتجسدت فيما سموه تولستوي, قوي فيك إتصال روحك بمدئه, فلم تشغلك حاجات جسدك, عما تسمو إليه نفسك, ولم تصب بما أصيب به الجمهور الأعظم من الناس من نسيان ما فضلوا عنه من عالم النور, فكنت لا تزال تنظر إليه النظرة بعد النظرة, وترجع إليه البصر الكرة بعد الكرة, فوقفت بذلك علي سر الفطرة, وأدركت أن الإنسان خلق ليتعلم فيعلم فيعمل, ولم يخلق ليجهل ويكسل ويهمل. كما كتب من بيروت الي القس الإنجليزي إسحاق تايلور, والذي كان خطب في لندن مبينا محاسن الدين الإسلامي ومتعاطفا معه فكتب إليه الإمام قائلا: وصل إلينا من خطابتك ما ألقيته في المحفل الديني بمدينة لندرة( لندن), متعلقا بالدين الإسلامي, فإذا للحق نور يلمع من خلال كلامك تعرفه البصائر الباصرة وتشيمه أعين للعقول النيرة رفعتك هداية الله الي مقام الإنصاف فرأيت الإسلام في طبيعته السليمة ووقفت عليه في مزاجه الصحيح فأدركت أثره في النفوس البشرية وعلمت أنه أفضل ما بعد الروح الإنسانية الي بلوغ ذروة الكمال الأعلي من الإيمان ودافعت عنه دفاع العارف به وجليته للغافلين في أجمل صورة يمكن أن يلمحوها بأبصارهم ويتصفحوا دقائقها بأنظارهم ثم دعوت أبناء ملتك الي كلمة السواء بينهم وبين المسلمين وصدقتهم النصيحة ألا يحنقوا المسلمين بتكذيب نبيهم ولا تكفيرهم في الاعتقاد بدينهم. وكتب إليه خطابا ثانيا: عزيزي حضرة خطيب السلام القس إسحاق تايلور: كنت في القدس الشريف لزيارة المواطن المقدسة التي أجمع علي تعظيمها أهل الأديان الثلاثة وفيها يري الزائر كأن دوحة واحدة هي الدين الحق تفرعت عنها أغصان متعددة لا يضر بوحدة نوعها وشخصها وفردانية منبعها ما يري في اختلاف أوراقها وفرج إنشعابها, ثم يحكم بأن تشابه الثمرة ووحدة نوعها وطعمها قد انحصر في الدين الإسلامي الذي يستقي من جميع عروقها وجذورها فهو فذلكتها والغاية التي قد انتهي إليها سيرها لأنه يصدق الكل ويعظم الجميع ويدعو الة التوحيد المحض, والفردانية الصرفة التي إليها مرجع الخلائق وإن بلغ اختلافها الي ما يفوت الحصر, ويتجاوز حدود النهايات. وعندما ترجم حافظ إبراهيم كتاب البؤساء, أهداه إليه كاتبا في إهدائه له: إنك موئل البائس, ومرجع اليائس, وهذا الكتاب أيدك الله- قد ألم بعيش البائسين, وحياة اليائسين. وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور, وسماه كتاب البؤساء, وجعله بيتا لهذه الكلمة الجامعة, وتلك الحكمة البالغة: الرحمة فوق العدل, وقد عنيت بتعريبه, لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب... ورأيت أن أرفعه الي مقامك الأسني, ورأيك الأعلي, لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث( أولها) التيمن باسمك والتشرف بلا انتماء إليك,( وثانيها) ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب الي الرجل الذي يعرف مهر الكلام, ومقدار كد الأفهام,( وثالثهما) امتداد الصلة بين الحكمة الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب الي حكيم المشرق, فليتقدم سيدي الي فتاه بقبوله والله المسئول أن يحفظه للدين والدنيا. عقب قراءة الكتاب كتب الشيخ الإمام تقريظا للكتاب منه: زففت الي أهل العربية, عذراء من بنات الحكمة الغربية, سحرت قومها, وملكت فيهم يومها. ولاتزال تنبه منهم خامدا, وتهز فيهم جامدا, بل لا تنفك تحيي من قلوبهم ما أماتته القسوة, وتقوم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة. حكمة أفاضها الله علي رجل منهم, فهدي الي التقاطها رجل منا, فجردها من ثوبها الغريب, وكساها من حلة من نسج الأديب, وجلاها للناظر, وحلاها للطالب, بعد ما أصلح من خلقها وزان من معارفها, شيقة الي مؤانسة البصائر, تهش للفهم, وتبش للطف الزوق وتسابق الفكر الي مواطن العلم, فلا يكاد يلحظها الوهم ألا وهي في النفس مكان الإلهام. رحم الله الإمام المصلح.