تتجه الأنظار مرة رابعة إلي جنيف, حيث يتوقع أن تعقد جولة جديدة من المباحثات بين النظام السوري والمعارضة بشقيها السياسي والعسكري, جولة جديدة ولا يبدو أن المواقف السياسية للأطراف قد تغيرت, ما تغير فقط هو الواقع علي الأرض بعدما تمكن النظام بفضل الإسناد الجوي الروسي والعمليات الحربية المشتركة بين الروس والإيرانيين والقوات العسكرية التابعة للنظام من إلحاق هزيمة كبيرة بفصائل المعارضة في مدينة حلب ثاني أهم مدن سوريا وأكثرها تأثيرا ومن ثم تحسين موقفه وتعزيز مكانته. لا شك أن أي حل في سوريا يمر عبر ثلاث دوائر لا بد أن يكون بينها خطوط اتصال ومساحات تفاهم, ولديها تصور لحل وسط يمكن من خلاله تسوية الأزمة ووقف الحرب الأهلية التي علي وشك أن تدخل عامها السادس. الدائرة الأولي هي دائرة الداخل, وهي التي يتحرك داخلها طرفا الأزمة الرئيسيان وهما النظام السوري والمعارضة المسلحة والسياسية, ولا يمكن بأي حال تأكيد وجود مساحة واقعية وفعلية مشتركة لتقبل حلول توافقية يتم فيها تنازل فعلي من جانب كلا الطرفين عن بعض من المطالب والأفكار المطروحة منذ اندلاع الأزمة, فالنظام ليس لديه فعليا أي تصور لشراكة حقيقية في الحكم من جانب المعارضة, وليس لديه تصور لمستقبل سوريا سوي من مرآة ماضيها من حيث إسناد السلطة وبناء الشرعية وتمحورها حول عائلة الأسد, والمعارضة في المقابل ذهبت وهي ترفع لافتة بيان جنيف2012 وبالتالي تصر علي أنه لا دور للأسد ولا نظامه في مستقبل سوريا, وهنا تبدو هذه الدائرة مغلقة وتعيد إنتاج ما سبق من فشل في التفاوض. الدائرة الثانية وهي الدائرة الإقليمية, ورغم التحولات المهمة التي شهدتها هذه الدائرة منذ دخول الروس علي خط الأزمة عسكريا في صيف2015, فإن مواقف القوي الرئيسية التي تخوض حربا بالوكالة في سوريا لا يبدو أنها تغيرت كثيرا, وما حدث هو مجرد تكتيكات لتفادي مواجهات غير محسوبة, فالقوي الداعمة للنظام علي موقفها من ضرورة حسم المعركة لصالحها, وكذلك مواقف القوي الداعمة للمعارضة لا تري بديلا عن هزيمة غرمائها في سوريا, الموقف الإقليمي إذن معقد ومساحات التفاهم الإقليمي غير موجودة والمواجهة مازالت هي شعار المرحلة, وقد أظهر مؤتمر أستانة أن الجهود العسكرية التي تبذلها الأطراف ونتائجها من مكاسب وخسائر لن تمكن أي طرف من حصد مكاسب سياسية كاملة, إذ تظل الهدنة وقفا مؤقتا للقتال واختبارا سياسيا صعبا. الدائرة الثالثة وهي الدائرة الدولية, ويبدو أن التفاهمات الروسية الأمريكية التي ظهرت بوادرها بعد التدخل الروسي في سوريا قد شملت عددا من محاور العمل أهمها محاربة الجماعات المتطرفة وإنهاء نفوذ الفصائل الإسلامية المسلحة, وتأهيل النظام للشراكة في مستقبل سوريا لكنها لم تنسحب إلي القضية الأهم وهي التوافق حول ملامح تسوية سياسية تضع حدا للحرب المشتعلة, وتوقف تبعاتها فما زال الخلاف قائما فيما يتعلق بحجم التنازلات التي يفترض أن يقدمها كل طرف. جنيف جديدة إذن قد لا تحمل بشائر اختراق حقيقي في الأزمة, لكنها اختبار جديد للمواقف وإعادة رسم للخطوط السياسية علي وقع تغيير إحداثيات القوات علي أرض المعركة, وكذلك إعادة ترتيب القوي الإقليمية لأوراقها ورسم خطوط المواجهة القادمة, مع موقف دولي غير واضح, لاسيما الموقف الأمريكي. لا شك ستعود كل الأطراف إلي أرض المعركة مرة أخري لتعيد الكر والفر من أجل أن تحقق بالسلام ما عجزت عن تحقيقه بالتفاوض, وكل طرف لديه أمل أن يفرض أمرا واقعا علي الآخر, وهذا أمر غير ممكن, لأن الحرب متشابكة ومقعدة وأطرافها قوي لا يستهان بها, والمعركة بالنسبة لهم مصيرية.