أثير في الآونة الأخيرة موضوع الحوار الوطني أو الوفاق السياسي كإطار تندرج تحت لوائه مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية علي الساحة السياسية مما يضفي علي الأمور وحدة واتساقا فضلا عما يوفره لها من دعم وتماسك رغم ماقد يبدو بينها من تشتت وتنافر. وغالبا ما يثار هذا الحديث, أو بالأحري حديث الوفاق السياسي بنوع من الحنين لتلك الفترة التي عرفت فيها مصر مشروعها التاريخي, فمصر الآن بغير مشروع تاريخي يحدد مجري القرار ومساره علي كل المستويات وبالتالي فإن القرارالمصري مشتت في مسالك ومسارب متشعبة تمتص جزءا من اندفاعه وبالتالي تحد من تأثيره. الموضوع مهم وخطير ويحتاج من مفكرينا الاهتمام والمناقشة, ليس للموافقة أو المخالفة وإنما لإبراز مختلف الجوانب وإثراء الفكرة وفتح الحوار, والموضوع يثير من الأمور النظرية والفلسفية بقدر ما يتعرض لقضايانا المعاصرة, ولذلك فإن باب الاجتهاد مطلوب. فاما عن ضرورة استراتيجية عليا للدولة تحرك من خلالها مختلف سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فأمر لا أعتقد أن أحدا يخالف فيه, وبطبيعة الأحوال فإنه من الضروري أن تكون الأهداف التي تتوخاها هذه الاستراتيجية أساسية ورئيسية يدور حولها حد أدني من الاتفاق العام بل والتصميم. وإذا كان من الممكن أن تختلف الأحزاب والتكوينات السياسية في البرامج والسياسات فإنه من الطبيعي أن يسود في المجتمعات المستقرة عدد محدود من التوجهات الأساسية للدولة والتي تمثل إستراتيجيتها العليا, بل إن فكرة الدولة ذاتها تستمد شرعيتها من هذه الإستراتيجية, فالدولة ليست مجرد سلطة للحكم تفرض علي المحكومين, وإنما الدولة في نهاية الأمر تنظيم مؤسسي لتحقيق عدد من الأهداف الأساسية والتي يرتبط ويلتف حولها الاتفاق العام. وبدون الاتفاق العام حول هذه الأمور الرئيسية فإن الدولة بمعناها الحقيقي تختفي لكي تكون في مواجهة قوي القهر والسيطرة وليست دولة بالمعني الصحيح. والإستراتيجية العليا وإن كانت تتمتع بالضرورة بقدر عظيم من الاستقرار والدوام, فإن ذلك ليس معناه الثبات والجمود, فالإستراتيجية تتغير من تغيير المعطيات الأساسية للموارد والمقومات الاجتماعية والثقافية للمجتمع وطبيعة العلاقات الدولية السائدة وتوازن القوي, وهي أمور لا تتغير عادة بشكل فجائي وعنيف, وإن عرفت مصر بعضا من التغيير في بعض هذه العناصر مما ساعد علي قدر من البلبلة. وتسعي الدولة إلي جانب متابعة هذه الاستراتيجية العليا التي هي من صميم دورها السياسي بالمعني الواسع إلي تحقيق بعض المثل العليا, وجهود الفلاسفة شاهدة علي هذا البحث الدائم عن المثل العليا للمجتمعات, كما أن النظم السياسية قد درجت منذ وقت بعيد علي تسجيل أهدافها ومثلها العليا في وثائقها الدستورية. فالثورة الأمريكية وضعت أول إعلان حديث لحقوق الإنسان رست فيه صورة المجتمع الذي تسعي إليه بخلق مجتمع للحرية والسعادة وجاءت الثورة الفرنسية بإعلانها لحقوق المواطن وبما يرسم صورة مماثلة للهدف المنشود. وبالمقابل نجد أن الدول ذات النزاعات المذهبية دينية أو علمانية تحدد أهدافها في إنشاء مجتمعات مثالية سواء أكانت مجتمعات اشتراكية مثل الصين أو إسلامية مثل إيران. كل هذا معروف ولا جديد فيه, ولعل ما يستحق المناقشة والحوار في هذه القضية المثارة هو فكرة الوفاق الوطني بما يتضمنه من معني الأحادية من ناحية والبعد التاريخي من ناحية أخري: فالحديث عن الحوار بديلا عن الإستراتيجية قد يفيد أن عناصر الإستراتيجية العليا لابد أن يغلب عليها هدف واحد أو غالب, فضلا عن إضفاء الصبغة التاريخية قد يتضمن في أحد التفسيرات نوعا من مسايرة التاريخ والخضوع لمنطقة, وكلا الأمرين يثير قضايا ليست هينة ولا يسيرة. وينبغي التنويه في البداية أن أحد أهم أسباب التشكك والتساؤل حول مدي توافر المشروع التاريخي يعود بشكل عام ضمنا أو صراحة إلي معاهدة السلام مع إسرائيل كانت تشكل محورا رئيسيا في الإستراتيجية العليا للدولة خلال فترة جاوزت الثلاثين عاما وكان لها أبعد الأثر علي تشكيل الحياة السياسية وتعبئة الاقتصاد المحلي وتوجيه علاقات الدولة الخارجية, ولذلك فقد جاء توقيع مفاوضات السلام مع إسرائيل معبرا عن تغيير جوهري في استراتيجية مصر, وإن كان مدي هذا التغيير وطبيعته لم يعط القدر الكافي من المناقشة والحوار. وإذا كان من الطبيعي أن تغير الدول إستراتيجيتها في الحرب والسلام في ضوء المتغيرات, فكما قال ريشيليو السياسي الداهية في عصر لويس الثالث عشر, إن الدولة لاتعرف صداقات ولا عداوت دائمة, وإنما فقط مصالح دائمة, فإنه لا يخفي إن طبيعة التغيير والظروف التي أحاطت به ولحقته قد ساعدت علي إثارة هذه الشكوك في كثير من النفوس. والآن نعود إلي فكرة الحوار وما يفيده ضمنا من غلبة هدف سياسي أو قومي رئيسي, والحق أننا تعودنا منذ عاد الوعي السياسي للشعب وبدأت مشاركته في الحياة العامة علي غلبة هدف سياسي واضح سواء في نوع من الديمقراطية أو في طلب الاستقلال السياسي ثم القومية العربية. فإذا كان تاريخنا السياسي الحديث يرتبط بمحمد علي أو بالحملة الفرنسية, فإن المشاركة الشعبية المحدودة بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي مع المطالبات بالدستور ثم تركز العمل السياسي في طلب الاستقلال السياسي حركة الحزب الوطني ثم ثورة1919 وماتلاها من نشاط سياسي وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة1952 بلورت فكرة القومية العربية أهداف التحرر السياسي والاقتصادي وأمال الوحدة والاشتراكية وتحقيق الذات واستئصال الغزو الأجنبي الاستعمار والصهيونية, وهكذا تميز هدف الحوار أو الوفاق الوطني الغالب بأنه هدف سياسي واضح المعالم نسبيا وبأنه يكاد يكون هدفا أحاديا لا تعادله أهداف أخري في الأهمية, وهكذا ساعدت الأحادية والبساطة في الاعتقاد بأن هناك هدفا قوميا وأنه في غيبة ذلك نكون بلا أهداف قومية أو بلا مشروع تاريخي. وبطبيعة الأحوال فإن الانتقال من السعي لتحقيق الاستقلال أو القومية إلي محاولات التنمية الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية والدخول في العصر والمشاركة في الانجازات التكنولوجية فضلا عن المشاركة الأصيلة في الإسهامات الحضارية مع الاحتفاظ بالهوية الثقافية كل هذا يبدو أكثر صعوبة وأكثر تعقيدا. وهذه الأمور وهي تفقد بساطتها وأحاديتها تمثل ولاشك درجة أعلي في مستوي النضج السياسي والحضاري. ولكنها في نفس الوقت بالمقارنة بالأهداف الأولية في الاستقلال والوحدة أقل تحديدا وأكثر هلامية. وهذه مشكلة التقدم في سلم الترقي, فالخيارات تكون عادة محدودة وواضحة في أدني السلم, وهي متعددة ومعقدة في الدرجات الأعلي. فالإستراتيجية العليا يمكن أن تختصر في هدف أو أهداف قليلة محدودة في ظروف الدول الأدني تقدما بل ويمكن ترجمتها في شعار أو شعارات قليلة يمكن أن يعبيء الجماهير للعمل والإنتاجية, ولكن الأمر لايكون كذلك مع الانتقال من مرحلة حضارية إلي مرحلة أبعد. وغني عن البيان أن هذا الحديث لايعني أبدا إمكان التخلي عن ضرورة وجود استراتيجية عليا مع الانتقال من مرحلة الاستقلال السياسي إلي مرحلة البناء الاقتصادي والاجتماعي ومشاركة العصر. بل لعل الصحيح هو أن وضع هذه الاستراتيجية العليا يصبح أكثر خطورة مع تعقد الأمور وتداخلها. وإنما المقصود هو أن فقدان الأحادية والبساطة في الاستراتيجية هو أمر تفرضه ظروف التطور, فلم يعد من السهل اختصار أهداف الاستراتيجية العليا في شعار واضح مثل الاستقلال السياسي أو الوحدة العربية وإنما أصبحت الأمور أكثر تعقيدا مما يتطلب فكر الصفوة إلي جانب عواطف العامة.