الإنسان في حاجة إلي الدموع لإفراغ شحنات الألم والإحباط داخله.. ولكن الرجال لا يلجأون للبكاء مثل النساء.. ولذلك فعمرهم في الغالب أقصر بينما المرأة التي تبكي وتصرخ تعالج نفسها بنفسها دون أن تدري ودون أن تذهب إلي الطبيب في حين يكتم الرجل دموعه وصراخه ويكبتها في الداخل حيث يصاب بأمراض الضغط والسكر علاوة علي أمراض القلب. هذه مقدمة ضرورية لمقتضي الحال الآن.. فشاشة التليفزيون والموبايل والنت وكل تلك الشاشات التي تدخل إلي البيوت وتراها العيون لم تعد تنقل إليهم علي الأقل هنا في محيط منطقتنا سوي صور الحرب في أبشع أشكالها.. القتل والتدمير والدفن تحت الأنقاض والهياكل العظيمة للناجين شكلا المقتولين جوعا.. ثم التعليقات الدولية الإعلامية الخبيثة التي تؤجج الحرب وتبيع السلاح وتستعدي فئة علي فئة حتي تحولت المسألة في النهاية إلي فرجة دائمة أو ماتش كرة دموي تحل فيه الرءوس النازفة المفتوحة محل الكرة. أصبحت الفرجة علي الشاشات في المنازل والبيوت والموبايلات تشكك الناس في القيم العليا وأولها: العدل, والحل؟ لا حل. وفي الأسبوع الماضي شاهدت برنامجا إنسانيا حيا يذكر الناس بالحياة وبأحاسيس الحياة وبدموع الحياة في مقابل ذلك الغم واليأس اللذين تبثهما فيهم مشاهدة الحرب يوميا.. بطلة البرنامج طفلة اسمها شهد, في السادسة أو السابعة من عمرها, لكن البؤس والضياع أنضجاها باكرا. فهي متشردة لا مأوي لها.. طردتها أمها القاسية التي يبدو أنها مدمنة والتي كانت تكويها بالسكين الملتهب.. وتخلي عنها أبوها الذي كاد لا يعترف بها.. إلي أن أوتها سيدة عظيمة مكتملة الإنسانية, اسمها غادة أو كما تسميها الطفلة ماما غادة فلقد التقطتها هذه السيدة والتقطت معها طفلا آخر وتبنت الاثنين إلي جوار طفليها إلي أن التقت بهم المذيعة التليفزيونية ريهام سعيد وقامت معهم بجولة ميدانية أقرب إلي التحقيق التسجيلي بالصوت والصورة والدموع والصراخ, اشترك فيه الأب الذي جن جنونه ما إن رأي ابنته التي تخلي عنها سابقا معتذرا لها وهو يحتضنها أنه كان في السجن بتهمة السرقة, وأنه مستعد لبيع لحمه في سبيلها.. كذلك الجد والجدة والأعمام في ميلودراما إنسانية حية تدفع أقوي العواطف الجافة إلي البكاء.. ووسط كل هذا الصراخ والدموع وأحضان الأب والأم والجد والجدة طالبين تسليم شهد لهم تصرخ البنت مولولة حين خيروها: لا أريد إلا هي.. ماما غادة.. ماما غادة.. وترتمي في أحضان السيدة العظيمة حيث تختلط الدموع.. مطلوب إعادة هذا البرنامج علي كل الشاشات لإعادة تحريك منابع الدموع والإنسانية فيمن جفت فيهم الدموع من طول مشاهدة مناظر الحرب والدم حتي اعتادوها كما لو كانت هي طبيعة الحياة.