لهؤلاء الذين يتخوفون أن البشرية ستكرر حماقاتها التي أدت إلي حربين عالميتين مدمرتين وعشرات الحروب الصغيرة في القرن العشرين.. أحب أن أقول لهم إنهم مخطئون.. فقد تطورت البشرية وتعلمت من أخطائها وأصبحت قادرة علي تجاوز كل الحماقات القديمة.. وابتكار حماقات جديدة تليق بمرحلة ما بعد الحداثة. قبل شهر تقريبا.. عدت من مهمة عمل تنقلت فيها بين أكثر من محطة أوروبية وكان لسراييفو عاصمة البوسنة النصيب الأكبر من الإقامة. سراييفو مدينة جميلة جدا ولكن أهلها مغرمون بالتدخين.. تقريبا هم أكثر أهل الأرض تدخينا للسجائر, وفي ظل قوانين متسامحة فيما يتعلق بمسألة التدخين في الأماكن العامة المغلقة كنت أعود كل ليلة إلي غرفتي في الفندق مغلفا برائحة عميقة تسكن رئتي وملابسي وتدفعني لقضاء الليل مؤرقا بسعال كثيف. أسأل صديقي المصور البوسني أنيس سيلافيتش الذي لم أره أبدا إلا وبين شفتيه سيجارة مشتعلة ألا يخشي البوسنيون علي صحتهم من اضرار التدخين فيضحك ثم يسعل ويروي لي عن جدته التي توفيت قبل عشر سنوات عن تسعين عاما فقد كانت تدخن يوميا علبة سجائر كاملة وكلما نصحها طبيب بالإقلاع تقول له إن عجوزا مثلها نجت من حربين عالميتين وحرب أهلية لن يستطيع دخان السجائر أن يسقطها. في الواقع فإن معظم من قابلتهم وتحدثت معهم من محللين وصحفيين ومثقفين لم يشعروا بخوف علي صحتهم أو حياتهم من اضرار التدخين ولكنهم كانوا يتخوفون بشكل عميق من إمكانية حدوث مواجهة مسلحة قريبة بين أقطاب العالم في حرب عالمية جديدة..هم يسخرون من فكرة الربط بين التدخين والمرض ويرون أن فرصة موتهم في حرب نووية قادمة أكبر بكثير من فرصة إصابة المدخن بسرطان الرئة أو تصلب الشرايين. يعتبر أهل البوسنة بلادهم مثل البحيرات التي تقع علي أطراف البراكين والتي تعتبر زيادة درجة حرارتها مؤشرا علي اقتراب ثورة البركان.. نظرية السير هالفورد ماكيندر استاذ الجغرافيا السياسية البريطاني التي كتبها في بداية القرن العشرين تؤكد هذا المعني.. فهي تجعل من منطقة شرق أوروبا محور المواجهة العالمية وقد ثبت صحة هذه النظرية طوال القرن العشرين حيث كانت سراييفو هي نقطة انطلاق الحرب العالمية الأولي فيما كان غزو هتلر لتشيكوسلوفاكيا وبولندا شرارة انطلاق الحرب العالمية الثانية. نحن دائما علي محور الإتصال بين الشرق والغرب..وطوال القرن الماضي كانت بلادنا علي موعد مع حرب كبري كل جيل أو جيلين.. ويبدو أن نذر المواجهة العسكرية الكبري القادمة أصبحت في الأفق نحن نشعر بذلك قال لي ذلك عميد سابق في الجيش البوسني شارك في حرب سراييفو ورافق الموت طويلا ولكنه نجا من بين مخالبه. هذه الرؤية التشاؤمية كانت قبل حدوث مفاجأة ترامب في الولاياتالمتحدةالأمريكية.. لابد أن أصدقائي في سراييفو أصبحوا الآن أكثر خوفا من ثورة البركان القادمة فالصعود المستمر لليمين المتطرف ينبئ دائما بمزيد من الحروب والمواجهات العسكرية.. والرئيس الأخير للجمهوريين في أمريكا والذي جاء مدعوما من تيار المحافظين الجدد اليميني المتطرف دفع العالم إلي مواجهات عسكرية محمومة باسم الحرب علي الإرهاب وقضي معظم سنوات ولايتيه الإثنتين يشعل حروبا في أفغانستان والعراق ولا يأبه بإطفائها. والواقع أن هذا الصعود المطرد لليمين حول العالم جعل سؤال الحرب العالمية الثالثة يزداد بنبرة متواترة في كل مكان.. فهل العالم فعلا يبدو مقبلا علي مواجهة عسكرية شاملة ؟ الإجابة علي هذا السؤال تحتاج إلي إعادة قراءة شكل المشهد الدولي الحالي بكل تعقيداته وصراعاته ومقارنته بشكل المشهد الدولي عشية الحربين السابقتين: فهل المشهد الحالي يشبه ما كان موجودا قبل الحرب العالمية الأولي.. أم الثانية ؟ للحديث بقية