نحن بصدد ثورة فريدة في التاريخ الإنساني قامت بها طليعة الشعب المصري من الشباب الثائر, وليس هذا الحكم من قبيل المبالغة, باعتبار أننا كعرب نميل أحيانا إلي تضخيم ذاتنا القومية كما يزعم المستشرقون الغربيون, لأن هذه الحقيقة عبر عنها رؤساء العالم الغربي, سواء في الولاياتالمتحدةالأمريكية, أو فرنسا, أو انجلترا, أو إيطاليا, ناهيك عن زعماء الدول في إفريقيا, وآسيا, وأمريكا اللاتينية. إن التغيير المؤسسي بالمعني الواسع للكلمة يحتاج إلي وقت و دراسة متأنية حتي لا تخرج التشريعات زاخرة بالثغرات القانونية أن بعض مطالب الشباب الثوار لم يستجب لها المجلس الأعلي للقوات المسلحة فورا كما كانوا يريدون, علي سبيل المثال طالبوا بإقالة جميع المحافظين دفعة واحدة, وكذلك إقالة كل رؤساء الجامعات وحين يقرر زعيم غربي أننا كلنا اليوم مصريون, أو يقول آخر ينبغي أن ندرس لأطفالنا أحداث الثورة المصرية, فمعني ذلك أن ثورتنا الرائدة انتقلت علي الفور من المحلية والإقليمية إلي العالمية, وليس ذلك غريبا علي كل حال, فنحن نعيش في زمن الثورة الاتصالية حيث تسود ثقافة الصورة, والصورة لا تنقل الأحداث فقط فور وقوعها, ولكن أيضا الأماكن التي تدور فيها الأحداث بكل تضاريسها, وأهم من ذلك كله ملامح البشر وتعبيرات وجوههم. وكان ذلك واضحا تمام الوضوح بالنسبة لثورة25 يناير, وأصبحت صورة ميدان التحرير, بما يموج فيه من ملايين البشر في المظاهرات المليونية, هي التي تتصدر المشهد الإعلامي العالمي, ليس ذلك فقط بل الوجوه المتعددة لعشرات المصريات والمصريين من كل الأعمار, بمن فيهم الأطفال وهم يهتفون للحرية, والكرامة, والإنسانية, والعدالة الاجتماعية. ومن حسن حظنا أننا نعيش في عصر ثقافة الصورة بكل منجزاتها التكنولوجية, مما ساعد علي الاحتفاظ بكل صور الثوار المعبرة غاية التعبير عن سخطهم الشديد علي تردي أوضاع النظام البائد, وهتافاتهم الثورية المدوية علي شاشات التليفزيون في العالم فمازالت صور الثورة التونسية وثورة يناير المصرية والاحتجاجات الثورية في كل من اليمن والبحرين وليبيا, تظهر علي الشاشات مع كل نشرة إخبارية بكل لغات العالم, وذلك يؤكد من ناحية أخري أننا نعيش عصر الثورة العربية الديمقراطية الشاملة. وهكذا أثبت الشعب التونسي الذي استطاع كسر حاجز الخوف وخلع الرئيس بن علي, وكان ملهما في الواقع لثورة25 يناير أن الشعب العربي لن يخضع للاستبداد, وأنه قادر بكل قواه الحية, ومخزونه الثوري علي نسف قلاع السلطوية, وفتح الطريق أمام الديمقراطية الحقيقية. *** وكان طبيعيا أمام25 يناير, هذا الحدث الثوري التاريخي الفريد, أن يتوقف أمامه العديد من الباحثين والمفكرين, سواء في مصر, أو في الوطن العربي, أو في العالم علي اتساع أرجائه. غير أن ثورة25 يناير مازالت مستمرة في الواقع, ولم تكشف بالكامل عن أوجهها كلها, فنحن إن أردنا أن نعبر تعبيرا دقيقا فنحن لسنا أمام ثورة قامت يوم25 يناير وانتهت بتنحي الرئيس السابق مبارك يوم17 فبراير, بل نحن أمام حالة ثورية مستمرة إن صح التعبير. والدليل علي صدق هذا التوصيف هو هذه العلاقة الجدلية بين شباب الثورة من ناحية, والمجلس الأعلي للقوات المسلحة من ناحية أخري. وذلك لأن طموحات شباب الثورة التي لا تحدها حدود, سواء فيما يتعلق بالإطاحة بالنظام السياسي القديم, سواء علي مستوي الرموز السياسية الحاكمة التي مارست الاستبداد عقودا طويلة من السنين, أو بالنسبة لرجال الأعمال الفاسدين الذين شاركوا من خلال تواطئهم مع جهاز الدولة علي نهب أراضي الدولة التي هي في الواقع ملك الشعب المصري, وأثروا من وراء هذا النهب, وتكدست في خزائنهم المليارات والتي ساعدتهم علي موجات الاستهلاك التفاخري, وبناء المجتمعات السكنية المترفة, بما فيها من ملاعب الجولف الشهيرة, وهذه الطموحات ترقي إلي مستوي القضاء علي كل السلبيات السلطوية, سياسية كانت أو اقتصادية, أو اجتماعية, أو ثقافية. وهذه العلاقة الجدلية بين شباب الثوار ورئيس وأعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي يقدر الشعب كله وقوفه مع الثورة منذ لحظاتها الأولي, وضمان انتقالها إلي الديمقراطية الكاملة, أشبه ما تكون بالعلاقة الشهيرة بين المثير والاستجابة, لو استخدمنا العبارة الأثيرة للمؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي في كتابه الشهير دراسة للتاريخ. وذلك لأن مطالب شباب الثورة المتلاحقة أشبه ما تكون بمثيرات موجهة للمجلس الأعلي للقوات المسلحة, الذي يختلف نمط استجابته لهذه المطالب كل علي حدة. علي سبيل المثال كانت استجابته فورية لمطلب حل مجلسي الشعب والشوري, وأيضا بالنسبة لاعتراض شباب الثورة علي حكومة الدكتور أحمد شفيق, علي اعتبار أن غالبيتها كانت من وزراء العهد الماضي. وكانت استجابته فورية أيضا في اختيار الدكتور عصام شرف رئيسا لمجلس الوزراء, وهو الذي تلقي شرعية ميدان التحرير منذ البداية, لدرجة أنه بعد أن تم اختياره رسميا نزل إلي ميدان التحرير حيث طالبه شباب الثورة بأن يقسم اليمين أمامهم, لكنه لم يفعل مخاطبا جماهيره أنه إنما جاء ليؤكد شرعية الميدان, وأنه إن فشل في مهمته فسيعود مرة أخري للميدان معترفا بذلك. غير أن بعض مطالب الشباب الثوار لم يستجب لها المجلس الأعلي للقوات المسلحة فورا كما كانوا يريدون, علي سبيل المثال طالبوا بإقالة جميع المحافظين دفعة واحدة, وكذلك إقالة كل رؤساء الجامعات, وكل عمداء الكليات في كل الجامعات المصرية, علي أساس أنه تم تعيينهم في العهد السابق, وأنهم يفضلون الاختيار عن طريق الانتخابات بالنسبة لكل القيادات. تلقي المجلس الأعلي للقوات المسلحة هذه المطالبات جميعا, لكنه وعد بدراستها ولم ينفذها علي الفور! لأنه لو نفذها علي الفور فسيظهر فراغ إداري بالغ الخطورة في جميع المحافظات المصرية, وذلك لأن ترشيح محافظين جدد تماما يحتاج إلي دراسة, والدراسة المتأنية تحتاج إلي وقت, حتي لا يكون الاختيار عشوائيا, مما يؤدي بشباب الثورة أنفسهم للاعتراض علي بعض الشخصيات المختارة. وكذلك الحال بالنسبة لإقالة رؤساء الجامعات, وعمداء الكليات, فهذه ليست عملية سهلة ميسورة كما يظن شباب الثوار, مرة أخري لأن اختيار رؤساء آلجامعات لو تقرر فإنه سيتم بالانتخاب يحتاج أولا إلي إعداد القواعد المنظمة للانتخاب, واستطلاع آراء أساتذة الجامعات فيها, قبل إلغاء قانون تنظيم الجامعات الحالي. والمسألة نفسها متعلقة بانتخاب العمداء, فهناك تجربة أكاديمية قديمة في هذا الموضوع كانت تنص علي أن انتخاب العميد يشارك فيه فقط من يشغلون درجة الأستاذ, بمعني أن الأساتذة المساعدين والمدرسين لم يكن لهم حق التصويت علي العميد, الآن هناك اقتراحات بأن تشارك الهيئة التدريسية كلها في الانتخاب, ونعني الأساتذة, والأساتذة المساعدين, والمدرسين, بل والمعيدين, وفي رأي إضافي أيضا عدد من الطالبات والطلبة. ومعني ذلك أن التغيير المؤسسي بالمعني الواسع للكلمة يحتاج إلي وقت دراسة متأنية حتي لا تخرج التشريعات زاخرة بالثغرات القانونية, مما قد يعرضها للعوار الدستوري, ويعرضها للإلغاء من قبل المحكمة الدستورية العليا. ألم يكن أحد الانتقادات العنيفة للنظام القديم أنه يسلق القوانين سلقا بغير مناقشة نقدية واسعة المدي من قبل مجلس الشعب, ومن قبل الجماهير, وأن هذه التشريعات يعدها علي عجل وفقا لأوامر السلطة الحاكمة فريق من القانونيين أطلق عليهم للسخرية منهم ترزية القوانين! فكيف يمكن في عصر الثورة اتباع الأساليب القديمة في سرعة إصدار القوانين والتشريعات, وقد يعرض المراكز القانونية الثابتة لعديد من البشر إلي الخطر, مما قد يلجؤهم إلي الطعن عليها أمام المحاكم المختصة. بعبارة موجزة إذا كنا نسعد بارتفاع سقف مطالبات شباب الثورة لأنها تعبر عن حماسهم الشديد لهدم القديم السلطوي, وبناء الديمقراطي البازغ, فإننا نأمل أن يتدبروا عواقب الإسراع في التغيير, والذي قد يؤدي إلي نوع من أنواع الفراغ في مؤسسات الدولة. والمشكلة نفسها تثار بالنسبة للمطالبات بالمحاكمات العاجلة لرموز الفساد السياسي, والفساد الاقتصادي والمالي. وقد استجاب المجلس الأعلي للقوات المسلحة لهذه المطالبات, وفق خطة مدروسة تقوم علي أساس التطبيق الدقيق لقواعد المحاكمات العادلة وفقا لمبدأ سيادة القانون, الذي بمقتضاه أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته, وقد قدمت مئات البلاغات ضد وزراء ورجال أعمال إلي النائب العام, الذي يعمل وزملاؤه بكل نشاط في التحقيق, وفحص الأدلة, قبل الإحالة إلي محكمة الجنايات, غير أن شباب الثوار يعتقدون أن هناك بطأ في الإجراءات, إلا أن هذه الإجراءات هي ضمانة أساسية من ضمانات أي متهم, ولا يمكن القفز حولها مادمنا نؤمن بسيادة القانون. وهكذا يمكن القول إنه لم يكن من الممكن محاكمة المئات من الفاسدين سياسة أو اقتصادا مرة واحدة, وحتي المطالب الخاصة بمحاكمة الرئيس السابق وأعضاء أسرته تمت الاستجابة لها في الوقت المناسب. بعبارة موجزة هذه الهوامش علي متن ثورة25 يناير لم تكن سوي مقدمات للحديث المتعمق عن الجوانب المبهرة لهذه الثورة الرائدة.