الآن أتنسم رحيق الحرية أهرول وأركض في الشوارع بلا قيد أو خوف لا تحيطني أسوار المحبس.. نزعت عني عشر سنوات مضت كأنها عمر دفعته ثمنا لجريمتي حتي حياتي قبلها لم تكن ذات قيمة..!! اليوم أراني وقد تحررت من نفسي الضائعة.. ولدت لتوي أقبل علي حياتي الجديدة بروح فطرتها التوبة والرغبة في المضي خيرا بعيدا عن وساوس الشيطان التي ألقت بي في براثن الإدمان وتجارة السم اللذيذ والأدخنة الزرقاء تاجرا ومروجا للمخدرات.. لم أنس أني كنت يوما أسطي ميكانيكي لا مثيل له وأن الدنيا التي وهبتني حياة سعيدة إلي جوار زوجة طيبة وبيت يسترني في رغد هي نفسها التي أعطتني ظهرها عندما جرفني تيار المخدرات وسهرات المزاج مع أصدقاء السوء حتي بعت ورشتي وضاع مالي وهجرتني زوجتي وبت أروج السم حتي أتعاطي ثمنه.. دارت الدنيا بي دورتها كاملة وأمسكت منها المال الحرام أتلذذ به وأغب من الوهم حتي أفقت من سكرة الغي في قبضة الشرطة..!! لفظتني حياتي اللاهية خلف الأسوار حبيسا.. مدمنا.. ضائعا.. يقترب الموت مني بطيئا.. تتعاقب الأيام والليالي قطرات مريرة أغيب فيها عن الوعي يتلحفني الموت إلا من عناية في مستشفي السجن..!! وانتهت أزمتي مع ذلك السم الذي سري في دمي حتي استوطنه.. شفيت من إدماني بعد رحلة من العذاب الطويل في المستشفي.. استرددت شيئا من عمري الذي ضاع.. وكأن سجني طوق النجاة الذي انتشلني من لجة الزل والمصير المجهول إلي حياة جديدة بلا تبعية لمرض أو جرعات إن لم أتعاطاها أضرب الأرض برأسي أحطمها ألما وفزعا.. لم يكن السجن بعدها مخيفا أو خانقا لي بدأت أتعايش فيه وأعمل في مهن كثيرة تعلمتها.. أعد الأيام انتظارا للخروج بعد انقضاء مدة العقوبة عاقدا عزمي علي حياة جديدة حلمت بها ليل نهار. ها أنا الآن خارج السجن.. تحقق الحلم وبات واقعا.. قررت أن أنادي دنيتي الجديدة تقبل علي بوجهها من جديد ولكني لم أكن أدري أني خرجت من سجن أصغر إلي سجن أكبر وأن قيدي الذي تخلصت منه مازال يطاردني ويمنعني من الحياة..!! كانت الناس هي الأسوار الجديدة التي أحاطت بي وسجنتني في الماضي.. كل من كان يعرف أن لي سابقة جنائية وحديث عهد بالدنيا بعد خروجي من السجن يلفظني ويبتعد عني وكأني فيروس معد أو خطر يخشي منه علي نفسه. أكثر من مرة أتقدم لصاحب ورشة ميكانيكا للعمل عنده وما إن يعرف بحقيقتي يطردني علي الفور.. ضاقت بي الدنيا ولم أجد غير باب ابنة عمي ينفتح لي.. كانت أرملة وتعول طفلين.. قالت لي إنها في حاجة إلي كي أساعدها في تربية طفليها وأكون لها سندا.. وتزوجتها وعشت معها سعيدا إلي حد كبير ونسيت شقائي وعذابي طوال السنوات الماضية ولكني كنت أعيش علي نفقتها فمازالت أزمتي في البحث عن عمل تلازمني برفض الناس لي فطلبت من زوجتي أن تعطيني من إرثها مبلغا من المال أستأجر به ورشة أعمل فيها ولكنها ترددت وخشيت علي مالها مني. وعلي الرغم من أنني أعيش معها في راحة ولا أعول هم لقمة العيش إلا أنني كنت ضائقا من نفسي حتي لعب الشيطان برأسي مرة أخري ووضع في طريقي أحد أصدقائي القدامي يمد لي يده ويشعل كل مصابيح الدنيا وأسرجتها أمام عيني المعتمة باليأس ويقترح علي أن يستأجر هو لي الورشة وأعمل بها ولكن بشرط أن تكون ستارا لترويج المواد المخدرة ودارت رأسي وبت كالطير يترنح أمام صياده ريثما يسقط.. حاولت أن أهرب منه ولكن نفسي الأمارة بالسوء تدفعني للقائه مرة أخري.. صوت بداخلي يناديني أن أتشبث بتوبتي ولكني أراه أمامي يجذبني إليه بالمال الحرام. ذهبت إلي شيخ الجامع الذي نصلي فيه.. قلت له كيف للإنسان أن يقاوم ضعفا يسكن داخله وإغراء يقتحمه من الخارج فيسحقه فقال لي: يا ولدي من يتق الله يجعل له مخرجا. خرجت من عنده وبداخلي نور لم أعهده في نفسي من قبل وأحسست أن الظلمة التي تسربت إلي أخذت تنسحب.. كان بداخلي قرار حاسم يدفعني إلي طريق واحد ليس لي غيره علي أن أسلكه ولا أحيد عنه. قطعت الطريق علي نفسي الأمارة بالسوء وواجهتها بوساوس صديقي الشيطان وإغراءاته لأقتل الضعف فيها.. طردت هذا الشيطان من حياتي بلا عودة.. ألقيت حملي الثقيل عن ظهري وتوكلت علي الله.. الخالق.. الرازق.. هو حسبي ونعم الوكيل..!! أكتب لك سيدي وبداخلي أمل جديد لعلي أصل إليه.. حلم عشت سنوات السجن أفكر فيه وأتمني أن أصل به إلي أرض الواقع,أن تكون عندي ورشة أسترزق منها حلالا وأطعم من كدي وعرقي,لا أعود لصداقة الشيطان وإدمانه. وعادت مقولة الشيخ تضوي في رأسي.. من يتق الله يجعل له مخرجا.. وها قد وجدت المخرج من أزمتي وصراعي مع نفسي.. حملت عدة الميكانيكا ووقفت في الشارع علي أرض فضاء أطلب الرزق شوقا للحلال وطمعا فيه. وكان الله سبحانه وتعالي حفيا بي رزقني من حيث لا أحتسب وشعرت مع مكسبي الحلال أني قد استعدت نفسي ووجودي حتي زوجتي التي كانت ترفض أن تعطيني من مالها لأستأجر ورشة أعمل بها جاءت من نفسها وعرضت علي مالها أعمل به.. قالت لي إنها تطمئن إلي الآن ولا تخشي علي مالها مني.. ولكني رفضت مساعدتها.. خشيت من نفسي ثانية إن وضعت المال في يدي أنا الآن أكسب من كدي وعرقي تحت شمس النهار وقيظها فأعرف لما اكتسبت قيمة فكيف لي والمال في يدي يأتي يسيرا بلا مجهود أو تعب لعل نفسي الأمارة بالسوء تعاود تآمرها علي مرة أخري وتعمي عيني عن طريقي بعد أن عرفته ومشيت فيه. م. ع. ك. القاهرة تلك محنة كبري التي عشتها يا أخي مع نفسك قبل أن تحصد نتائجها خلف أسوار السجن ولكن لأن نبتا طيبا يسكن قلبك وجدت طوق النجاة من إدمانك والغرق في مستنقع الشر برحمة من ربك وسبحان الله الذي جعل من سجنك العلاج الشافي لك من إدمان المواد المخدرة وأتاح لك أن تستعيد صحتك وقوتك لتقوي علي نفسك الأمارة بالسوء وتسمو بها عن تجربتك القاسية وتخرج من أزمتك وسجنك وقد برئت من كل دنس وخطية. أما الناس الذين لفظوك وقيدوك بأغلال الماضي ورواسبه للأسف تلك نظرة مجتمعية خاطئة تجعل من البعض الحكم علي غيرهم حكما مطلقا بلا وعي أو منطق ولعل الدولة عندما سنت قانونا بإسقاط السابقة الأولي من صحيفة الأحوال المدنية للمواطن المصري بعد مرور وقت معين يثبت فيه حسن سيره وسلوكه استنت ذلك القانون حلا لمشكلة كثيرين مثلك يواجهون ثقافة رافضة لكل من له ماض جنائي وينفرونه من بينهم. لا تبتئس فالله عز وجل قد من عليك من فضله الكثير من نعمه جزاء صبرك ويقينك من أنه جلت قدرته سوف يغير من حالك يوما ما وأبرز نعم الله عليك تلك المرأة الطيبة الصالحة التي وقفت إلي جوارك وساندتك دون أن تطلب منك شيئا وحتي عندما رفضت مساعدتك وإعطاءك مالا من إرثها كانت علي صواب فهي حارسة علي إرثها وإرث ولديها اليتيمين كيف لها أن تفرط في بعض منه دون أن تكون علي يقين من الحفاظ عليه وهي عندما رأتك وقد استطعت الخروج من شرنقة اليأس والضعف الإنساني أتتك لحالها وقدمت إليك المال الذي تريد عن طيب خاطر. ورغم أن قبولك لمالها والعمل به ليس فيه شيء طالما أنك سوف تتعامل به بمنطق الشراكة وستدر لها ربحا معك إلا أنني أوافقك في رفض العرض فاعتمادك علي نفسك أفضل بكل تأكيد ولسوف تستطيع يوما أن تشتري لنفسك الورشة التي تحلم بها من مالك ألم تلمس كيف من الله عليك من نعمه عندما اتقيته فجعل لك مخرجا مما أنت فيه ورزقك من حيث لا تحتسب؟ واعلم يا أخي أنك تركت المال الحرام وأهله لله فلن يضيمك أبدا فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم), وقال:( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم), ثم ذكر الرجل يطيل السفر, أشعث أغبر, يمد يديه إلي السماء, يا رب, يا رب, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأني يستجاب لذلك صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم, أخرجه مسلم في صحيحه].