قضي الخليفة المستنصر بالله, نحو ستين عاما أو يزيد قليلا في الحكم, أميرا للمؤمنين, تدين له البلاد من المحيط الأطلسي حتي حدود العراق, بما فيها بلاد اليمن والحجاز, ولم يكن عمره حينما تولي الخلافة, يزيد علي سبع سنوات وبضعة أشهر. وتوفي الخليفة المستنصر, عن ستة وسبعين عاما, لكنه رغم عمره القصير, مقارنة بمن سبقوه ومن لحقوا به, كان أطول الخلفاء عهدا, عادلا محبوبا من الرعية, يخالط الناس ويستمع إلي شكواهم, كريما جوادا فتح خزائن الطعام والشراب في قصره للعامة, وهو ما يعكس حالة الرخاء وسعة العيش التي كانت تعيشها مصر في تلك الفترة, التي قال فيها الرحالة الفارسي ناصر قبادياني, في كتابه الأشهر سفر نامه, أن بعض المصريين بلغوا حدا من الثراء, لو تم ذكره, لما صدقه أحد من العالمين. عاشت مصر سنوات مديدة من الرخاء في بداية خلافة المستنصر, كانت أسواقها عامرة, ودكاكين الصرافين والبزازين مملوءة بالجواهر والملابس المذهبة والمقصبة, بحيث لا يوجد فيها متسع لمن يريد أن يجلس, ويروي قبادياني في كتابه الذي يعد علامة فارقة في أدب الرحلات, أن النيل نقص في أحد الأعوام, فجف الزرع والضرع, فخاطب السلطان نصرانيا من أثرياء مصر, كان يملك من السفن والأموال ما لا يمكن حصره, قائلا:ليست السنة رخاء, ونحن مشفقون علي الرعية, فأعط ما استطعت من الغلة إما نقدا أو قرضا, فما كان من النصراني إلا أن تعهد للسلطان بإطعام أهل مصر لست سنوات, من دون أن ينقص ذلك من ماله شيئ!. مع بداية العام1052 ضربت مصر أزمة اقتصادية خانقة, بالتزامن مع نقص حاد في مياه النيل, ما أدي إلي ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة, ويرجع كثير من المؤرخين سبب تلك الأزمة إلي سوء تدبير من الوزير أبي محمد علي البازوري, إذ جرت العادة خلال فترات سابقة, علي أن يقوم الخليفة بشراء كمية كبيرة من الغلال, وتخزينها في المخازن السلطانية, ليتاجر فيها ويستخدمها في الوقت ذاته في ضبط الأسعار في الأسواق, لأنه كان يجبر التجار علي البيع بنفس السعر الذي يحدده, فيما الغلال في المخازن السلطانية, أشبه بالاحتياطي الاستراتيجي للبلاد, وحدث أن أخبر الوزير المستنصر بالله بأن يستبدل الخشب والحديد والعسل بالغلال, لأن الأخيرة متوافرة في الأسواق, وأسعارها في انخفاض دائم, فانتهز التجار الفرصة, وأخذوا في تخزين القمح وإخفائه, بل إنهم قاموا بشراء محصوله من الفلاحين قبل موعد نضوجه, فاضطربت أحوال الناس, وارتفعت الأسعار, حتي أصبح سعر تليس القمح أي ما يوزاي كيلو جرام اليوم, بثمانية دنانير, فاضطر الخليفة في مواجهة الأزمة, إلي التفاوض مع ملك الروم قسطنطين التاسع, علي استيراد أربعمائة ألف أردب من القمح. لم تتم صفقة المستنصر بالله مع قسطنطين بسبب وفاة الأخير, ورفض الملكة ثيودوره إتمام الصفقة, فما كان من الوزير البازوري, سوي أن قرر إلزام التجار بأثمان جديدة للقمح, بحيث لا يزيد التليس من القمح علي ثلاثة دنانير, ومن يخالف ذلك يعرض نفسه للموت, وقام بتحديد حصة يومية من القمح للخبازين, ما أدي إلي هدوء الأحوال وانكشاح الأزمة, خصوصا بعدما من الله علي مصر, بعودة فيضان النيل, فزرع الفلاحون الأرض, وانزاح الغلاء, لكن لم تمض سوي سنوات قليلة حتي عاشت مصر سنوات عجاف فيما عرف في الأدبيات التاريخية بالشدة المستنصرية, وفي ذلك مقال آخر الأسبوع المقبل بإذن الله.