مصر.. ثلاثة أحرف تحمل من التاريخ ما يملأ الأرض كتبًا، كل منا يظن تاريخ مصر كتابًا مفتوحا يعرفه الجميع، درسناه في حياتنا التعليمية، منذ العصر الفرعونى إلى ما بعد نصر أكتوبر 73، إلا أن أكثر صفحات التاريخ رعبًا لم تفتح بعد، قسوتها كانت تقف عائقًا أمام ذكرها، دمويتها لم تخطر على بال أشد مخرجى «السينما» دموية وسادية، كل من علم بها أرادها صفحة تطوى كى لا يصاب بالفزع من يعرفها، أولى تلك الصفحات حكاية بدأت منذ ما يقارب ال900 سنة بالتحديد في عصر الخليفة الفاطمى المستنصر بالله، وتصف ما عرف وقتها بال«شدة المستنصرية» التي قتلت أكثر من نصف سكان مصر، وكادت أن تمحوها من ذاكرة التاريخ، فيها بلغ الفقر حدًا لم يعرفه التاريخ، وبلغ الجوع مدًا أفقد البشر إنسانيتهم، فمن يتخيل أن أسواق القاهره كانت في يوم من الأيام يباع فيها «اللحم البشري». المستنصر بالله، يقول المقريزى «شيخ المؤرخين المصريين» أنه الخليفة الفاطمى الخامس، وأطول من تولى الحكم في التاريخ الإسلامى، فأصبح خليفة وهو في السابعة من عمره، كان من أكثر الخلفاء في التاريخ ثراء ب35 مليون دينار ذهب، كان قصره أفخر ما بنى في التاريخ الإسلامى ويضم بين جدرانه 30 ألف شخص ويحرسه ألف حارس، وبدا عصره كأكثر العصور رخاء ورفاهية على مدى 17 عاما، وكأن تلك الفترة الهدوء الذي يسبق العاصفة، التي بدأت بأول واقعة ارتفاع في الأسعار نتيجة انخفاض مستوى مياه النيل مع قرب نفاد مخزون القمح من المخازن السلطانية وتدخل «أبومحمد الحسن اليازوري» وزير الخليفة الأول وقتها بقرارات سيادية للتصدى لجشع التجار واستيراد كميات من القمح، نجح بعدها في السيطرة على الحادث، وقرر بعد أن اطمأن لوجود كميات كافية تخزين سلع أخرى كالحديد والأخشاب مما جدد الأزمة مره أخرى وطلب الإمداد من حاكم القسطنطينية - إسطنبول - الذي أمده بما يريد، ثم مات ومنعت زوجته الإمدادات بعد وفاته، فكانت تلك بداية أقسى سبع سنوات مرت على مصر منذ سنوات يوسف عليه السلام العجاف، ما عرف الناس في مصر قحطًا مثلها على مر التاريخ، وأجمع المؤرخون على أنها بدأت عام 457 هجريًا واستمرت 7 سنوات متواصلة، قال المقريزى في وصفها «الغلاء الذي عظم أمره.. وشنع ذكره.. وامتد أمده سبع سنين»، وأما عن أسبابها فيشترك فيها ضعف شخصية الخليفة وحادث مقتل وزيره واستقلال الحجاز والشام وتفكك الدولة الفاطمية، مع جفاف النيل حتى كان أعمق نقطة به يصل عمقها لمتر واحد فقط!! وظهر على سطحه طبقة من طحالب خضراء فتحول إلى ما يشبه «ترعة» ليست بها حياة، فانتشرت الأوبئة في جميع ربوع مصر، واشتد الوباء حتى وصل عدد الهالكين يوميًا ما يفوق العشرة آلاف، وخلال عام هلك أكثر من نصف المصريين وبارت الأراضى بسبب هلاك جميع الفلاحين، حتى أصبحت الزراعة إحدى مهام الجيش. ويروى موفق الدين عبداللطيف البغدادى «مؤرخ شاهد على تلك الفترة» أن تعداد مصر وقتها كان يقارب المليون وستمائة ألف، وأن الوباء انتشر، فكان إذا مات شخص في بيت فأهل البيت جميعًا يموتون اليوم نفسه، وأن «تنيس» محافظة الشرقية - وقتها - لم يبق بها إلا 100 فرد فقط، وأن الخليفة المستنصر كان يتكفل وحده يوميًا «بتكفين» 20 ألف مواطن، وأنه كان يمر بالمنازل يتذكر قول الله تعالى «فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنهمْ» ومن بقى حيًا من أهل مصر وقتها لجأ لمياه الآبار لامتلاء النيل بأجساد من هلك من شعبها، ومع توقف الزراعة لقلة المياه وهلاك الفلاحين نفقت المواشى وتوقفت الصناعة والتجارة، وانتشرت البطالة والسرقات والعصابات وطال الانفلات الأمنى الجيش نفسه الذي تفكك وأصبح مجموعات من عصابات منظمة وزادت الجرائم بشكل لم تشهده مصر منذ نشأتها. وارتفعت الأسعار بشكل جنونى فكانت البضائع تباع بأكثر من 15 ضعفًا من ثمنها الأصلى، وكان المنزل يباع مقابل «جوال دقيق»، وفر من بقى من شعب مصر إلى البلدان المجاورة، وفرت أم الخليفة المستنصر نفسها إلى بغداد بعد أن كانت واحدة من الأسباب في اندلاع الأنفلات الأمنى لانحيازها لأبناء وطنها الأم «السودان»، فكان تكوين الجيش المصرى وقتها من عبيد وأتراك ومغاربة وشوام فانحازت للعبيد القادمين من الجنوب فأصبحت سببا في حدوث انشقاقات الجيش وقتها. ويروى المقريزى حادثة تبين ما وصل إليه حال أهل مصر في المجاعة فيقول إن سيدة من أغنياء القاهرة وجدت أبناءها يبكون من شدة الجوع فأخذت إحدى مجوهراتها من اللؤلؤ، وهى تتحسر على ثروتها التي لا تستطيع بها شراء رغيف خبز، وخرجت لتطوف أسواق القاهرة فلا تجد من يقبل بالعقد مقابل الدقيق، إلى أن وافق بعض التجار رأفة بحالها فعرضت جزءا من الدقيق على من يحميها حتى تصل لمنزلها بحملها الثمين فلما وصلت إلى باب زويلة - السيدة زينب - وشكرت حراسها وأخبرتهم أنها في أمان لاقترابها من منزلها، قام الناس بالهجوم عليها ليخطفوا ما تحمله من كنز «أبيض» ثمين، فلم تنل منه إلا حفنة قبضتها بكلتا يديها، وذهبت لبيتها وعجنتها وصنعت منها «قرصة» أخذتها وسارت إلى قصر الخليفة وصعدت إلى مكان مرتفع ونادت ساخرة بأعلى صوت وهى تمسك بال«قرصة»: «يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره.. حتى تحصلت على هذه القرصة بألف دينار». ولم يكن حال الخليفة بأفضل من رعيته، فالجوع لا يعرف الرحمة، فأصاب القحط الجميع، فأجبر الجند خليفتهم على بيع ممتلكاته لتسديد رواتبهم وسدد، أنفق كل ثروته في تكفين موتى المصريين كى لا يلقى بهم ذويهم إلى النيل للحد من الأوبئة، ووصل به الحال إلى حصيرة ينام ويجلس عليها، تتصدق عليه بنت أحد العلماء ب«رغيفين» كصدقة حتى لا يموت جوعًا، وحمارًا هزيلا ليتحرك به، بعد أن هجرته أسرته هربًا من القحط إلى بغداد، زوجاته خرجن من القصر حافيات الأقدام، متن الواحدة تلو الأخرى في طريقهن للهرب، مكتبته الملكية مزقها الجنود مئات الآلاف من المجلدات، صنع من جلودها الأحذية واستخدمت أوراقها للتدفئة وباقى الأوراق ألقيت في الصحراء ونثرتها الرياح لتنتشر فوق أحد التلال سمى باسم «تل الكتب». انتشر النهب، سرقت قبور الخلفاء والملوك، المستنصر بالله نفسه ضاعت ثروته ومقتنياته التي جمعها هو وآباؤه وأجداده بيعت بأبخس الأثمان، تغير 12 وزيرًا في 5 سنوات انقطعت الطرق برًا وبحرًا قسمت البلاد، الجنوب يسيطر عليه العبيد والشمال للأتراك ووصل الأمر من الجوع إلى اضطرار المواطنين لأكل اللحم البشرى من جثث ذويهم بدلا من رميها في النيل وبعد انهيار دولة عظمى وتفتت أوصالها، ماذا حدث، كيف عاش المواطنون في ظل الانفلات غير المسبوق والكوارث الطاحنة، كيف تجاوزوها... «يكمل». من النسخة الورقية