تطرح إشكالية قراءة التراث, الكثير من الآراء والأفكار التي لم تزل حتي يومنا تشغل بال غالبية المفكرين والمثقفين العرب علي اختلاف انتماءاتهم, ويبدو أن الدافع وراء هذا الانشغال هو وعي الذات العربية بمشكلات التحول الحادة أو الصدمات الجذرية, التي تضع الذات علي عتبات مرحلة جديدة. كانت بداية هذه الصدمات تلك الصدمة التحديثية الأولي التي حملتها الحملة الفرنسية علي مصر(1798), فانتزعت الذات من سباتها العميق الذي دام طويلا, وازداد وعيها بفداحة المسافة التي تفصلها عن الآخر الغرب المتقدم. كان علي الذات أن تواجه هذه الصدمة, وأن تعيد النظر في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وفي هذا السياق يقول الدكتور مصطفي بيومي عبد السلام أستاذ النقد الأدبي بدار العلوم بجامعة المنيا إن إعادة النظر في الماضي/ التراث أو محاولة تأويله وقراءته تلبي الحاجة الملحة لمجاوزة الحاضر المتخلف في جميع القطاعات وعلي جميع المستويات أملا في المستقبل. ويستوي الأمر في ذلك حين نحاول قراءة التراث أو تأويله قراءة تحرص علي الاستعادة أو الاستنساخ أو الإسقاط أو التهميش أو النفي أو حتي إعادة الإنتاج أو غير ذلك من المحاولات القرائية لذلك التراث. أي أن الحاجة إلي إعادة النظر في التراث أملتها حاجات وضرورات اجتماعية وسياسية وفكرية. ولم يكن الخطاب النقدي بوصفه جزءا من الخطاب العام للذات العربية بعيدا عن تلك الإشكالية, وإنما كان مشغولا بها أيضا, فقدم محاولات قرائية مختلفة ومتنوعة للتراث النقدي. وأضاف الناقد الدكتور مصطفي بيومي أن الوعي بأن ما أنجزه النقد العربي ليس كافيا, أو علي أقل تقدير أن الوعي بأننا في حاجة ماسة إلي أن نضع ما أنجزه ذلك النقد موضع المساءلة والمراجعة المستمرة, علي نحو يغدو معه هذا الفعل دفعا للمجاوزة والتقدم, وأملا في ممكنات المستقبل الواعد. هنا يلتفت النقد الأدبي إلي نفسه ويتحول من لغة تصف موضوعا غيرها إلي لغة تصف موضوعا هو إياها, ليفحص سلامة تصوراته النظرية, وممارساته الإجرائية, ومبادئه التفسيرية, هادفا من هذه الممارسة إلي إدراك معرفي جديد يتيح له التعرف علي قصور موضوعه من ناحية, وتطوير أدوات معرفته من ناحية أخري. لقد كان هذا الوعي دافعا لك علي إعداد دراستك السابقة عن: مناهج دراسة الشعر الجاهلي في الكتابات النقدية العربية المعاصرة؟ نعم فهذا الوعي عينه يهدف إلي ممارسة معرفية جديدة للنقد العربي, ولذلك فإن التعامل تم مع قراءات صادرة بلغة عربية, وعن نقاد عرب, وقرأوا التراث النقدي في أفق عربي, واستبعد القراءات الاستشراقية للتراث النقدي الصادرة عن مستشرقين ينتمون إلي أفق غير الأفق العربي ويخضعون إلي أدوات فكرية ومفهومية تنتمي إلي فضاء آخر غير فضاء النقد العربي, وللسبب نفسه تم استبعاد ما قدمه نقاد عرب من قراءات صادرة بلغة أجنبية. كذلك فإن ترجمة بعض هذه القراءات إلي اللغة العربية لا يعني أنها تحررت من السلطة المرجعية المفهومية والفكرية التي تنتمي إلي فضاء غير فضاء النقد العربي. وأكد أنه علي الرغم مما بذله النقاد العرب المعاصرون من جهود مخلصة في مجال النقد الشارح أو الميتانقد, فإن أحدا منهم لم يقدم فيما أعلم بحثا أو أبحاثا قائمة بذاتها تحاول أن ترصد وأن تحلل وأن تقيم الاتجاهات القرائية المختلفة للتراث النقدي في الكتابات العربية الحديثة. والبحث الوحيد, فيما أعلم أيضا, الذي عالج إشكالية قراءة التراث النقدي هو البحث الذي أذاعه الدكتور: جابر عصفور تحت عنوان: قراءة التراث النقدي, مقدمات منهجية(1990), ولا أذكر عدد المرات التي قرأته فيها, وأري أنه أكثر كتاب هذا العصر تأثيرا في جيلي من النقاد والدارسين. وعلي الرغم من ذلك- والكلام للدكتور مصطفي بيومي- فإنني لم أرصد الاتجاهات القرائية المختلفة للتراث النقدي فقط. صحيح أنني قدمت تصنيفا لاتجاهات القراءة المختلفة,ولكن المهمة كانت موجهة إلي صياغة المقدمات المنهجية التي تحاول أن تقدم نهجا متميزا في قراءة التراث النقدي, أو أن تقدم نظرية في قراءة التراث تبحث عن رؤية عالم ينطقها النص المقروء, ويشير إليها في صراعاته وتوازياته, ومن خلال علاقات التشابه التي تصله بغيره من النصوص, أو علاقات التضاد التي تضعه في تناقض مع غيره من النصوص. وماذا عن فصول كتابك الذي أسميته دوائر الاختلاف؟