يمنح شيخ النقاد الدكتور عبد المنعم تليمة لمستمعه جرعة كبيرة من التفاؤل, ربما لا يجد لها مثيل بين شباب العشرينيات, فهو يري بوضوح أن مصر تسير بخطوات ثابتة نحو مستقبل مشرق, تحقق فيه البلاد كثيرا من أحلامها, وتستكمل فيه مسيرة حضارة تليدة, تعرضت بفعل أمور عديدة إلي التعثر, وهو يقول بوضوح أكثر إن مصر الآن تلتقط أنفاسها وتنقي ثوب نهضتها من آثار عقود مضت, عانت خلالها من الشمولية والعنف, واحتكار السلطة تارة باسم الدين, وتارة أخري باسم الشعب.. قضي الدكتور عبد المنعم تليمة نحو عشر سنوات من عمره في اليابان, مبعوثا من كلية الآداب, فراقب عن كثب تجربة النهضة اليابانية, وكيف أولت اهتماما كبيرا بالنشء والتربية والتعليم, لذا فإنه يري بوضوح أن أزمة مصر الحقيقية, تكمن في انهيار منظومة التعليم, ويقول إن إصلاح تلك المنظومة هو الأساس لأي نهضة حقيقية في البلاد.. الأهرام المسائي التقت شيخ النقاد, في حوار تناول ملفات شتي, حول أزمة مصر وسبل الخروج منها, وبالطبع كانت البداية من ملفه الأثير, التعليم. بداية كيف تري أزمة مصر وما هي السبل للخروج منها؟ -أزمة مصر الحقيقية تكمن في انهيار منظومة التعليم, وتلك مأساة لأن مصر لها تاريخ عريق جدا في هذا المجال, وقد كنت أحد شهود تلك المرحلة العظيمة في تاريخنا, فقد قضيت عامين دراسيين وطه حسين يشغل موقع وزير التعليم المعارف العمومية وقتها وهو من قال إن التعليم كالماء والهواء, وهو أيضا أول من أدخل وجبة كاملة للطفل المصري في جميع المراحل الدراسية, عندما وقف أمام الملك فاروق بعد تشكيل وزارة النحاس وقال له كيف أطلب من تلميذ أن يفهم دروسه, وأنا أعلم علم اليقين أنه لم يتناول طعام الإفطار. وأزمة التعليم لا تتوقف عند تلك النقطة, وإنما تمتد إلي المعلم أيضا, ولك أن تتخيل أن وجوه الأمة وأعلامها في فترة من الفترات, كانوا يقومون علي التدريس في مدارسنا وجامعاتنا, وقد تعلمت علي يد أستاذي علي أحمد باكثير, الذي درس لي اللغة العربية لمدة خمس سنوات, فيما تعلمت فنون التمثيل علي يد زكي طليمات مؤسس المسرح المصري الحديث, وحمدي غيث وغيرهم من الأعلام في مجال الموسيقي والرياضة والغناء, فقد كان الهدف من التعليم بناء الشخصية من جميع جوانبها, والحقيقة أن الانحدار الحقيقي للتعليم بدأ بعدما توغلت الحكومة في السيطرة علي المقررات الدراسية, والمدارس والجامعات ومعاهد تخريج المعلمين, وأنا أري أن الهيمنة البيروقراطية لعبت دورا كبيرا في تشويه التعليم في مصر. كثيرون يشكون من محتوي المناهج الدراسية فهل لها دور أيضا في انهيار المنظومة التعليمية في مصر؟ -هناك اختلاف كبير بين المناهج في هذا الماضي القريب, والمناهج التي يدرسها الطلاب حاليا, فمن كان يضع منهج مادة الكيمياء مثلا في وقت من الأوقات, كان محمد بك فياض مدير التعليم الثانوي في المملكة المصرية, ومن كان يضع منهج كتاب النحو كان الشيخ عبد المتعال الصعيدي, صاحب كتاب تجديد النحو, وكان الدكتور شوقي ضيف هو من يضطلع بوضع منهج تلك المادة في الجامعة المصرية, وهو صاحب كتاب النحو الجديد أما الآن فحدث ولا حرج. برأيك كيف حدث الانهيار في التعليم المصري؟ -مصر من آلاف السنين تقوم في نهضتها علي الثقافة التي تمثل برأيي كل ثروتنا, ويكفي أننا في القرون الحديثة بداية من القرن التاسع عشر, فعلنا في التعليم ما لم تفعله أمة في العالم, فتفوقنا علي اليابان وفرنسا وألمانيا, وقد كان الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر علمانيا, فنادي بتدريس الكيمياء والرياضيات الحديثة للطلاب, ورفاعة الطهطاوي الذي تتلمذ علي يديه, أصدر بعد ذلك أهم كتبه المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين وكان أول من نادي ليس بعمل المرأة وإنما بتعليمها ويكفي أن المصريين هم الذين أنشأوا أول جامعة أهلية بأموالهم, وأنا أري أن من مثالب ثورة يوليو أنها مدت يدها إلي ملف التعليم بمنطق احتكار إدارة الثقافة, التي هي في الأساس المنتج الذي يعكس العبقرية المصرية, وما حدث هو أن الثقافة تعطلت, برغم مآثر ثورة يوليو وانتصاراتها العظيمة, وقد كان إنشاء وزارة للثقافة أحد أسباب الانهيار, فوجود وزارة للثقافة يجعل المثقفين ينطقون بما يريده الحاكم, فيتحولون من مثقفين إلي موظفين. قلت من قبل أن الأخونة لعبت دورا كبيرا في انهيار المشهد الثقافي المصري؟ -نعم وقد بدأت تلك المرحلة منذ منتصف السبعينيات, بسماح من الرئيس أنور السادات, وقد اعترف الرجل بخطؤه مرتين, إحداهما في خطبة عامة سجلها التليفزيون, ومرة أخري عندما قال لي وأنا مع مجموعة من المثقفين نحاوره في بيته: يا تليمة أنتم- يقصد الاشتراكيون- قادمون وحزبكم ات, لكن يجب أولا أن نتخلص من البلوة السودا وكان يقصد الإخوان المسلمين. قتل الإخوان السادات في النهاية, لتعيش مصر في ظل قانون الطوارئ لمدة ثلاثين عاما بسبب الإرهاب, بعدما ابتليت بالأخونة, والحقيقة أنه لم يحدث أن توغلت أو هيمنت هذه الثقافة علي عقول قطاع عريض من المصريين إلا في فترة السبعينيات. وماذا عن فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك؟ -كانت فترة جمود كامل, وقد التقيته ثلاث مرات أهمها عندما زار اليابان في مارس عام1983 ورغم أن الزيارة كان محددا لها ثلاثة أيام, إلا أن الجانب الياباني طلب يوما رابعا فوافق مبارك, وقد رافقته خلال هذا اليوم, وخرجت بانطباع عنه أنه رجل طيب, لكنه بالغ العناد وبالغ البطء والجمود, وهو ما انعكس علي حركته في السياسة وتقدير الأمور التي تركها في النهاية للجهاز الأمني والبيروقراطية, ما انعكس علي جميع نواحي الحياة وفي مقدمتها التعليم. كيف تكون المعالجة من وجهة نظرك بعد كل هذا الجمود والانهيار؟ - يشهد العالم حاليا ثورة شاملة في العلم وتطبيقاته, وقد كان أول تطبيق لذلك يحدث في مصر في25 يناير2011 عبر تلك الثورة التي قام بها شباب منفتح علي تطبيقات العلوم والتكنولوجيا بشكل كبير, وأنا شخصيا أري في الجامعة جيلا جديدا من المعيدين والمدرسين الشباب, علي مستوي نظرائهم في الدول الأوروبية, علي الرغم من انهيار مؤسساتنا التعليمية. كيف تنظر إلي فترة إقامتك في اليابان وما هو الدور الذي لعبته في قناعاتك الجديدة؟ -هي بالنسبة لي فترة عزيزة وغالية جدا, وقد تمت إعارتي من كلية الآداب جامعة القاهرة مرتين, الأولي عام1979 لمدة خمس سنوات, والثانية من عام1989 حتي عام1994 وخلال تواجدي باليابان لمدة عشر سنوات أستطيع أن أقول إن التعليم وفقط هو السبب الرئيسي وراء نهضة اليابان, فهي دولة لا تملك المواد الخام أو البترول, ولا تملك سوي العنصر البشري, وقد أقامت نهضتها الحديثة علي التعليم, والعجيب أن بداية النهضة اليابانية كانت من مصر, فعندما بدأوا تأسيس الدولة الحديثة, أرادوا أن تهتدي بلادهم بمن سبقوها إلي النهضة, ووقع الاختيار علي مصر باعتبارنا شرقيين مثلهم, فأرسلت اليابان وفدا إلي القاهرة, عادوا إلي بلدهم منبهرين بما رأوه, من مصانع ومجلس تشريعي ودستور يحكم البلاد, وكتبوا ذلك في تقرير عن الزيارة لا يزال موجودا بالمكتبة الوطنية في طوكيو, وعندما هزم الإنجليز عرابي ودخلوا مصر عام1882 أرسل اليابانيون إلي أحمد عرابي في المنفي يسألونه, كيف كانت النهضة والانتصار, ثم كيف جاءت الهزيمة والانكسار, بل وشجعوه علي كتابة مذكراته التي نشرت في كتاب الهلال بعد ذلك. كيف تري المستقبل في مصر؟ -أنا مؤمن إيمانا تاما بأن المستقبل أفضل, وأن الشباب هم من سيقومون به بالعلم والتكنولوجيا, فعندما عدت من اليابان عام1994 وجدت البشائر موجودة في الشباب, وتوقعت التغيير في2005 وقد حدثت بدايات هذا التغيير بإلغاء فكرة الاستفتاء علي رئيس الجمهورية للأبد. ولكن بما تفسر صعود الإخوان بعد25 يناير؟ -التحالف بين البيروقراطية المتخلفة والعناصر الفاسدة في نظام مبارك, هو من جاء بالإخوان إلي الحكم, وهم لم يعمروا, ولأول مرة تخرج جماهير الشعب المصري تهتف يسقط يسقط حكم المرشد, واليوم نجحنا في تنفيذ خارطة الطريق بدستور وبرلمان وانتخابات رئاسية, وستكتمل الخارطة بانتخابات المحليات, وسيحدث كل ما نريده وستكمل هذه المؤسسات مدتها بالتطور الديمقراطي السلمي الطبيعي. هل تري أنه سيكون للإخوان مكان في مستقبل مصر؟ - لا يوجد احتمال لذلك, فقد سقطت الشمولية في السياسة المصرية إلي الأبد, ولن يحدث أن يأتي في مصر من يحتكر التحدث باسم الله, وهو يقصد كلمته هو, والأحزاب الحالية ضعيفة لكنها تتعلم وستقوي في المستقبل, وما يحدث الآن هو أن مصر تنقي ثوب النهضة من أي شمولية وأي عنف, أو احتكار للسلطة باسم الله أو باسم الشعب, وهذا هو طريق التطور.