منذ سنوات ولضيق الوقت، كنت من هؤلاء الذين يفضلون مشاهدة ما قد يستحق من مسلسلات شهر رمضان على موقع YouTube فى هدوء ما بعده، لكن المسلسل التاريخى "سمرقند" أجبرنى هذا العام على كسر تلك العادة، ثلاثة أسباب جعلتنى أشاهد هذا العمل فى رمضان. الهروب بعيدَا إلى الوراء. بعالم صارت إعلاناته موجهة لهؤلاء الذين يقاسون وطأة العيش فى "فيلا بحديقة واحدة"! يهرب بنا الكاتب الأردنى "محمد البطوش" نحو القرن الحادى عشر الميلادي، ومباشرة نحو الأقدام الحافية للجارية الخلابة "نرمين" المعروضة فى سوق عبيد مدينة سمرقند - فى أوزبكستان الآن - تأهبًا لبيعها، ثم يقذف بها القدر كجارية فى قصر السلطان "جلال الدولة ملك شاه" بمدينة أصفهان - فى إيران الآن - وهناك تدخل بنا الجارية نرمين لكواليس حياة الملك فى ظل صراع وكيد نسوى بين زوجتى السلطان، إحداهن الفاتنة "تُركان" والمهجور فراشها مُنذ 15 عامًا! والأخرى "زبيدة" أم ولى العهد والأكثر سيطرة، لكن الجارية تنجح فى قلب الأوضاع لصالح المهجور فراشها، وهذا بالطبع ليس كل شيء، هذا مُجرد طُعم لجرجرة روح المتلقى سعيًا وراء عقله، طيب من يظن أن الدراما التاريخية تُصنع فقط من أجل التسلية والاستراحة بعيدًا! رؤية فنية لحرب مذهبية. هؤلاء الذين لا يفضلون مشاهدة انحطاط برامج "ترويع الناس بالنار"، بقليل من التأمل سيلمحون من الوهلة الأولى أن أشقاء الجوار يخوضون دراميًا حربًا جديدة، النجم السورى "عابد فهد" والذى أبدع قبل سنوات فى تجسيد "الحجاج بن يوسف الثقفى"، خرج علينا هذا العام بتقمصه شخصية من أكثر الشخصيات جدلًا فى التاريخ الإسلامي، "حسن الصباح" مُؤسس فرقة الحشاشين، الذين يعدهم البعض كأول تنظيم إرهابى بالعالم الإسلامى لاعتمادهم الاغتيال وسيلةً لنشر الفكر الشيعى والدعوة للإمام المعصوم! وفى المقابل لعنف الصباح وإرهابه، يبرز السُنى "عُمر الخيام"، العالم والفيلسوف والشاعر المعروف بحبه للحياة والذى يُجسده الفنان اللبنانى "يوسف الخال"، هذه المباراة التمثيلية الرفيعة لا يمكن مشاهدتها بمعزل عما يكمن بين سطورها، "سمرقند" بإنتاجه الضخم وإسقاطاته جزء من حرب مذهبية فى المشرق العربي، باتت تتخذ صورًا مُتعددة سواء على الأرض أو حتى فى الفضاء. فتح آفاق جديدة. بعيدًا عن إفلاس مسخ جزء جديد من "ليالى الحلمية" أو إعادة تمثيل "الكيف"، سمرقند قد يُسلمك مفاتيح لم تكن قد أدرتها فى أقفال كتب سابقة، سيُزين لك فضول المشى بدروب جديدة نحو المعرفة، إنتاج ضخم مثل هذا وبمثل هذه الحرفية والصنعة من الطبيعى أن يثير ذهنك للبحث - على جوجل كأضعف الإيمان - عن دولة السلاجقة، عن الفارق بين حقيقة عُمر الخيام والشائع عنه، عن الفاطميين فى مصر وعلاقة "حسن الصباح" زعيم الحشاشين بهم! لماذا جاء للقاهرة ولمَ رحل منها؟! كيف دخل بأتباعه "قلعة ألموت" ولماذا لم يخرج منها مدة 35 سنة؟! ثم تُفاجأ بأن "هولاكو" زعيم التتار هو من استطاع كسر شوكة تلك الفرقة! لكنه كسر معهم كل الفرقاء، لا لشيء سوى لأننا تشرذمنا فى حينها بين عباسيين وسلاجقة وأيوبيين وحشاشين، تمامًا كما الآن! لتصل بك دراما التاريخ للوقوف أمام السؤال المُر: هل نحن بانتظار هولاكو جديد يُسوى بنا الأرض؟! بالنهاية، ولأن المقدمات المنطقية قد تؤدى لنتائج منطقية، لذا وضح من الحلقات الأولى لمسلسل "سمرقند" للمخرج الأردنى "إياد الخزوز" ورفاقه أننا أمام إنتاج درامى رفيع مختلف عن كثير من السخف المعروض الآن، عمل سيدفع بالمُشاهد المصرى تحديدًا لأن يسأل عن جنسية هؤلاء النجوم العرب المخضرمين الذين لم يعتد مشاهدتهم.