شهر الصوم المبارك تطوف بنا نفحاته العبقة وترفرف علينا نسماته الطيبة، وينتشر أريحه وعطره فى كل الأرجاء ليملأ الدنيا أمنا وأمانا وخيرا وبركة. اعاده الله على مصر والامه الاسلامية والعالم أجمع سلاما وطمأنينة، وفى الشهر الكريم تصفو النفوس وترق القلوب ويعم الصفاء ويبادر المجتمع بكل أطيافه إلى عمل الخير والتقرب إلى المولى عز وجل، فالشهر الكريم فريد فى بابه، اختصه سبحانه وتعالى بأن يكون الشهر الذى تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار، وفيه يستجاب الدعاء، فلنبتهل إلى الخالق سبحانه ان يملأ حياتنا بالسعادة وأن يسير الوطن فى درب التقدم والرقى والنماء والنمو. ولعلى فى هذه المناسبة الكريمة أعود بالذاكرة إلى ليالى الشهر الفضيل وأنا بعد فى أولى درجات السلم الإذاعي، وكيف كانت الإذاعة المصرية تختص بالشهر الكريم، وهى ذكريات عزيزة وغالية أستدعى بها زمنا جميلا وماضيا حلوا أفتقده هذه الأيام، آملا ان يشاركنى القارئ الكريم فى الاستمتاع بهذه الذكريات التى مضى عليها الآن اكثر من ستين عاما خاصة ان الإذاعة كانت الوسيلة الاعلامية الوحيده من تلك الأيام. وقد لا يعلم ابناء هذا الجيل بل وأبناء الاجيال السابقة أن البث الإذاعى كان يتوقف عقب انطلاق مدفع الإفطار وانتهاء المؤذن من آذان المغرب ليعود مرة أخرى عندحلول أذان العشاء ليترك الميكروفون فسحة من الوقت للصائمين لكى يتناولوا إفطارهم وأداء مناسك دينهم من صلاه واستغفار ثم التسامر مع أفراد العائلة أو مجموعة الأصدقاء، بدلا من اللهث الآن وراء وسائط الإعلام المختلفة وكل يريد ان يشاهد مسلسلا بعينه أو برنامجا من البرامج والمسلسلات العديدة التى تبثها الشاشات والميكروفونات، كانت الإذاعة تختص بالشهر الفضيل فتعد له خريطة برامج خاصة به بدءا من أغنيات «وحوى يا وحوى» «ورمضان جانا» وأهو جه يا اولاد» «وفوانيس رمضان» إلى جانب أحاديث دينية يقدمها رجال الأزهر وأصحاب الرأى وقد لا يعلم أبناء الأجيال السابقة أن الميكروفون كان فى تمام الساعة التاسعة مساء ينتقل إلى أحد القصور الملكيه مثل عابدين فى الشتاء، أو رأس التين فى الصيف لنقل تلاوات من آى الذكر الحكيم لكبار القراء الشعشاعى وشعيشع ومصطفى إسماعيل والفشنى والصيفى، وكان المذيع منا يذهب إلى باحة القصر مرتديا الزى الكامل والكرافتة وعلى رأسه الطربوش ليقدم التلاوة منوها بأنها تقدم بإذن ملكى كريم، ومن المعروف أن الإذاعة فى تلك الايام كانت تنهى إرسالها بعد نشرة الساعة الحادية عشرة مساء، ولكن فى شهر رمضان كان الإرسال يمتد إلى ما بعد أذان صلاة الفجر من المساجد الكبري، وقد لا يعرف الكثيرون من ابناء الأجيال الحالية والسابقة أن الإذاعة لم تكن تعرف تقديم المسلسلات إلى أن جاء الراحل حافظ عبدالوهاب وهو يدير إذاعة الاسكندرية المحلية فتقدم هذا اللون من البرامج فى رمضان سنة 1956، كما جاء بابا شارو فقدم فى رمضان سنة 1957 ملحمته الدرامية الأشهر «ألف ليله وليلة» التى كتبها الشاعر والآديب طاهرأبو فاشا، ومنذ ذات التاريخ بدأت الاذاعة فى تقديم المسلسلات فى رمضان وغير رمضان، حيث استقبلها المستمعون بشغف كبير وكانت نسبة الاستماع اليها نسبة عالية ،ومن اشهر البرامج التى ابتدعتها الاذاعة فى شهر الصوم «الفوازير» التى صالت الاذاعية آمال فهمى وجالت فيها من خلال ما كان ان يكتبه عمنا بيرم التونسي، خاصة أن الاذاعة خصصت جوائز مالية لمن ينجح فى حل الفوازير، فأقبل عليها المستمعون إقبالا شديدا ولم تمض سنوات حتى بدأ البث التليفزيونى من ماسبيرو سنة 1960 فنقلت شاشته المشاهدين إلى مجال أرحب وأوسع، حيث تسيدت الصوره المشهد الإعلامى ثم تنامى الاعلام الرسمى وكانت برامجه خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى فى رمضان تستقطب الجموع الحاشدة فى أنحاء الوطن، وامتد الإرسال الإذاعى بحيث لم يعد يتوقف بعد مدفع الإفطار وتكاثرت الشاشات والشبكات الإذاعية وجاء الاعلام الخاص بشاشاته المتعدده لتتبارى القنوات رسمية وخاصة فى الاحتفاء بالشهر الفضيل. والسؤال الآن ما الذى يمنع من ان يتوقف الإرسال التليفزيونى والاذاعى من الفترة ما بين المغرب والعشاء فى رمضان حتى نستعيد الماضى الجميل وحتى يلتئم الشمل بدلا من الالتفاف حول الشاشات، وكل يتشاجر مع الآخر وكل يريد شاشة بعينها أو برنامجا بعينه. الم يكن الماضى جميلا؟!