قال إمامنا المستنير وهو يجوب نظراته بيننا علي نحو مريب: أيهما أهم القمح أم الحرية؟ باغتنا السؤال وألجمنا.. قبل أن يستقبل استفساراتنا المتلاحقة وأفكارنا المتصارعة.. لم عباءته الرمادية, وخرج من باب جانبي في باحة المسجد واختفي!. سألته لأمي عند عودتي إلي المنزل لاهث الأنفاس, أجابتني بابتسامتها المعهودة, مربتة علي كتفي: ماذا تفعل الحرية لإنسان جائع.. هل تصلب عوده؟ عجبت من كلماتها وأعجبت بها, عزمت أن أجيب بها علي الشيخ في الدرس القادم, في باحة صحن مسجد سيدي المرسي أبو العباس. ترددت علي دارنا الست أم نعمة جارتنا وهي تبكي مولولة, لاتكف عن الدعاء عمن أسمتهم الظلمة.. أن يفرج الله كرب زوجها المحبوس في إحدي القضايا ظلما كما أسردت لأمي. قصت كيف كبست الشرطة منزلهم ليلة أمس, فتشوه بعدما بعثروا محتوياته إقتادوا زوجها إلي حيث لا تعلم, ظلت تسأل عنه في كل مكان بلا جدوي حتي جاءها النبأ من أحد الصولات قريب زوجها الذي يعمل في مباحث القسم, نصح بإيكال محامي للدفاع عنه واستطاع استصدار أمرا لها بالزيارة. جلست تساعدها أي في إعداد الزيارة: حلة أرز بالشعرية, حلة طبيخ باللحم وصينية كنافة.. وهما جالستين في الصالة علي الأرض يعدان الطعام برق في ذهني خاطر, سرعان ما أفضيت به هاتفا: حتي من فقد حريته لا يستغني عن الطعام. خبطت جارتنا علي صدرها وأخذت تبكي مجددا وتدعو.. كأني فقات دملا بحديثي هذا مما جعل أمي تحدجني بنظرة لوم وعتاب. سألته لمدرس اللغة العربية في الفصل في حصة البلاغة, كنا ندرس مواطن الجمال في أحد النصوص الشعرية.. كان يشرح كيف أن الحرية كالشجرة مثمرة واعدة تقف في وجه الريح العاتية, فأجبته بأن لي رأيا آخر, نظر مزمجرا قائلا في عصبية: لا ينقصنا إلاك أردفت في حماس: الشجرة في موسم الخريف تتجرد من أوراقها وتصبح كتلة خشب صماء.. وهو مالا يتناسب مع قيمة الحرية واستمراريتها. بوغت بردي هذا, ظهر عليه استحسان سرعان ما أخفاه, بادرني قائلا: كلام جميل جدا.. لكن لو كتبته في الامتحان سأعطيك صفرا ضحك التلاميذ بينما استغرقتني أنا الفكرة: الحرية شجرة.. القمح نبتة.. فيما التنازع؟. ما هي إلا أسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان,, تردت هذه العبارة وعبارات آخري في حجرة الصالون حيث يجتمع أبي مع أصدقائه زملاء المصنع في لقائهم الاسبوعي. أبي رئيس وردية,, خبرة صوت جهوري. بنية قوية,, خبطت علي الباب قبل أن أدلف للداخل, استقبلني الجميع بالترحاب وسألوني عن أخبار المذاكرة والمدرسة وأن أشد حيلي كي أصبح باش مهندس قد الدنيا أعدل المائل في المصنع, سألني أبي عما أريد أفضيت له بسؤال الشيخ الذي يطلب إجابته في الدرس القادم, أثرت انتباههم جميعا وبدا كأنهم كانوا يتباحثون في الأمر قبل اقتحامي خلوتهم, لذا جاءت الردود والتعليقات متزاحمة حاولت استيعابها قدر الامكان: الجماد والحيوان يأكلون ويشربون, هل أنت مثلهم؟, الخبز وقود الجسد, الحرية وقود الروح, هل يحيا إنسان بغيرهما معا؟ ما تاريخ البشرية وما بها من ثورات وحروب وصراعات.. ما أشعار الفلاسفة والصوفيون والمصلحون ورسالات الأنبياء.. غير سعي دئوب لامتلاك الفرد حريته بجانب خبزه, ما الاستعمار غير امتلاك حرية الآخرين مقابل فتات يلقي لهم, قال أبي بنبرة ختامية ليستكمل تعليقات الاصدقاء: نحن نأكل كي أم نعيش كي نأكل؟, أصدقكم القول,, لقد زادت هذه الكلمات من حيرتي. أجابت علي سؤالي بسؤال, لم تهبني إجابة محددة, تمكني من الرد علي سؤال الشيخ والفوز علي أقراني في الدرس. استيقظت عند الفجر مذعورا علي جلبة وضوضاء وصوت أقدام كثيرة تدوس المنزل,, فتح باب غرفتي عنوة, جريت مفزوعا أختبيء في حضن أمي الواقفة مبهوتة وسط الصالة.. رأيت رجال كثر ملثمين يأخذون أبي بالقوة بعدما قيدوه من الخلف.. سحبوه في ثوان عبر السلم, اركبوه عربة ميكروباص بيضاء كانت منتظرة أمام المنزل, رأيتها من الشرفة, سرعان ما غابت كنقطة تتلاشي شيئا فشيئا كالسراب في غبشة الفجر.سألت أمي إن كان مصير أبي سيصبح كمصير زوج جارتنا, صمتت برهة ثم أخبرتني بأن ابي لم يقترف إثما وإنما اتهموه ظلما وبهتانا وستثبت براءته ويفرجون عنه!. منذ ذلك الحين.. بدأت أمي في التغيب عن المنزل طوال النهار تاركة لي الغداء المكون من جبن وفول مغطي بفوطة بيضاء علي المنضدة, ثم تعود متعبة منهكة آخر الليل تسألني في كلمات مقتضبة عن أخباري في المدرسة, واسألها عن أبي فتقول بأنه بخير وسوف يعود قريب.. سرت همهمات بين أقراني في المدرسة والجامع فهمت منها أن أمي تعمل في البيوت لتفي باحتياجات المنزل وأتعاب المحامي. اغتممت وأحسست بالعجز. لما فاتحتها احتضنتني بوجها الرائق أخبرتني بأن الشغل ليس عيبا وهذا ظرف طارئ لحين عودة أبي.. كان يوما من أيام الخريف لا أنساه عمري., الزغاريد تملأ البيت, الجيران يتوافدون علي المنزل بأكواب الشربات وصواني البسبوسة وأم علي.. رفقاء أبي في العمل جالسين أمام المنزل يرقصون علي أنغام مزمار بلدي. علمت أن أبي سيفرج عنه اليوم بعد عامين بالتمام والكمال, خفق قلبي بعنف فكم اشتقت إليه وإلي مداعباته وكلامه الآسر خاصة بعد رفض أمي مرافقتي لها في زياراتها المعدودة له في السجن. جاء أبي كالبدر المنور.. جلس بين أصدقائه علي باب المنزل ثم زفوه حتي طلع البيت, جلسوا كما اعتادوا في حجرة الصالون يتبادلون النكات والقفشات وأحاديث السياسة, يهنئونه بالعودة, هو وأكثر من عامل آخر كانوا محبوسين معه. مرت أيام وشهور طويلة.. تملكني سؤال جديد أشد حيرة, ظل يؤرقني: هل خرج أبي حقا من محبسه؟. شد ما تغير.. كأنما من عاد الينا رجل آخر, غريب الأطوار.. فقد أبي رواءه, روحه المرحة, خفة ظله, أصبح واجما ساهما طوال الوقت, فصلوه من المصنع لكن أهل الخير وأصدقاءه أوجدوا له عملا آخر.. كان يعود من العمل في الخامسة مساء.. ثم يظل صامتا بقية اليوم, جالسا القرفصاء علي الأرض بجوار الكنبة في الصالة,, قهوة عم ريحان المجاورة لمنزلنا هجرها.. جلسات الصحاب عزف عنها, حتي الجرائد لم يعد يقرأها.. كانت أمي تضع أمامه الطعام لا يلتقط منه سوي بضع لقيمات صغيرة بالكاد تسد ومقه رغم إلحاح أمي كي يسترد عافيته, أصبح شاحبا ممصوصا, صرر جلدا علي عظم, الهالات السوداء أسفل عينيه لا تبارحها.. السعال ينهش صدره,, أصبحت عيناه غائرتين كأنما تخفي جرحا لا يعلمه أحد.. فهمت حينذاك معني كلمة انكسار الروح وانهزامها.. غاضت البهجة من جو المنزل وحلت الكآبة, سألت أمي مستغربا, فردت: أيام صعبة سوف تمر, فترة الحبس تركت أثرا غائرا في نفسه سيشفي منه بالتدريج أطل برأسه من قميصي المشجر السؤال القديم.. الخبز أم الحرية؟. لم أعد أحتاج من أحد اجابة, تمنيت لقاء الشيخ إمام مسجدنا.. كي أخبره بالحقيقة, التي لا أظن أن أحدا يعلمها سواي.. التي كانت مرتسمة بكل وضوح ودقة كلما نظرت إلي وجه أبي.