إن كل شئ يمضي وفق إيقاع نبض الأيام العادية، ولايوجد ما يستوجب الشكوي من الماضي. إهداء إلي: الفنان أنور براهم.. تقديراً وعرفاناً. رخت أول مطرة في منتصف فبراير، ولم يدخل المساء بعد،كانت أمي جالسة علي كنبة الصالة،حين تذكرت ثيابنا المنشورة علي حبال الغسيل، نهضت،فتحت الشيش الخشبي للبلكونة الكبيرة، وبدأت تقطف من فوقه المشابك لتجمعه، وقد اندفع تيار من الهواء عبر الصالة، حمل معه رائحة من الندوة شملتني، مرت دقائق وبدأ موبايلي يرن وظهرت صورة "حنان"علي شاشته،ولم أجب. عندما عادت أمي منتصرة بالثياب التي أنقذتها من البلل؛كنت أفكر في حنان.. ولأول مرة،شعرت أنني أقوم بحصر عمري بين يدي. كان الأمر، يشبه علي نحو ما، حين يسند شخص إحدي مرفقيه علي نافذة عربة قطار يقطع الزمن بسرعة فائقة، ويسرح في المباني التي تعبر في غمضة عين. هكذا وجدتني أحصر عمري بين يدي، وقالت أمي بنبرة أشبعها التشفي: "شرباتك بس هي إللي غرقت عشان نشرتهم في شباك المنور". ثم جاءتني رسالة منها علي الموبايل، نهضت متجها إلي غرفتي ، بدأت امي تطوي الثياب الناجية، كانت رسالة حنان تقول أنها لم تستطع إجهاض الجنين. عاش ابي مخلصا لمهنة جدي،لأن جدي عاش مخلصا لمهنة أبيه،هكذا وجدت نفسي ،منحدرا من نسل سلالة تصنع الحلويات. ظل أبي"قنديل"يعمل في بيته الثاني، فندق سيسل،شيف حلويات. يصنع عشرات الأصناف ولكل صنف مقاديره ،مستوي النار التي تنضجه، تناسق ألوانه التي تزن بميزان عينه، خبرة السلالة عن الطعم، عن الكثافة،ونسبة الرائحة. عالم تشيده المكونات، تخبزه تجربة سنوات باتت ضاربة في عمق اسم العائلة "قنديل محمد قنديل الحلواني"، ولأن شهب السماء قامت بعقاب الجن بالتلصص في صفحات الغيب؛ لم يعرف أبي أنه سيرزق بالولد الوحيد ،الذي سينتهي معه تاريخ السلالة،سلالة الحلوي. جاءت الرخة الثانية للمطر بعد توقف الأولي بحوالي ساعة، كانت أمي قد وضعت الثياب في الدواليب والأدراج وبدأت تتخذ جلستها المسائية في المطبخ، تصنع قهوتها وتشعل معها سيجارة. عندما علمت حنان ان امي تدخن، سألتني كيف لم يستطع أبي أن يجعلها تقلع عن تلك العادة؟ ولما أخبرتها أن حياة أبي في فندق سيسل جعلت منه شخصاً غير تقليدي، لم تفهم، وبعد أن مضي شهر من عمر سؤالها، بدأت تدخن، ولم أعترض، بل أخبرتها أن لكل شخص حقه في ان يتصرف في حياته كما يريد، لكنني لم أخبرها أن تلك الجملة من الأقوال المأثورة لأبي..قنديل الحلواني. عادت أمي من المطبخ بابتسامة أسف،لتخبرني بأن الرشفة الأخيرة من فنجان قهوتها قد إنسكب في الهواء: شرقت،يظهر حد كان بيجيب في سيرتي. بالطيب. واتجهت نحو شباك المنور كي تتفقد مصير جواربي الغريقة. كان لأبي عينان خضراوتان احب أن أطيل النظر فيهما، تقول أمي أن أجمل ما جذبها نحوه هي تلك العينان،كما كانت نظراته من النوع التي تحمل رسائل،يصوب نظرة قوية بأتساع الحدقتين؛ رسالة غضب، إنذار، فرصة اخيرة لتصويب الخطأ، أو نظرة مفتوحة، عالقة، كإله يتفقد موجوداته الفانية، أتذكر انني قرأت تلك النظرة يوم أن تشاجر مع أمي وعلا صوتهما لأول مرة، في ذلك اليوم كان أبي عائدآ من عملة كالعادة متأخرا، وقد طوح كأسين من البراندي اللذين يشربهما مع بار مان الفندق"عم حمدي"رأسه، ثارت أمي وهزت رجولته بكلمة ناعمة، وبدأ الصراخ يعلو بينهما، تركت له البيت وخرجت، عندئذ،أتجه أبي إلي طاولة المطبخ، جلس لدقائق، ثم نهض ليفتح النافذة الطويلة، وبدأ يسدد للوجود تلك النظرات العالقة، نظرات مفتوحة علي مصراعيها ولا تشي بشيء، كنت أراقبة من زاوية الصالة، ارتجف ،وشعرت أن غولاً سيشق الجدار ليبتلعني، ثم أنني أذكر جيداً كيف أنكمشت علي نفسي متخذا وضع الجنين، كان وقتها الطفل الذي كنته، يراقب انهيار البيت،العالم، بخرس تام، كنت أرتجف، وأبكي، وبدأت اللحظات تمر بثقل ووهن ورغبة في النوم ليختفي كل شئ، ثم فتحت عيني وعدت أراقبه من زاويتي، كان مايزال متخذا وقفتة كشجرة عجفاء، ويسدد تلك النظرة التي بدأت تلفت انتباهي وقتها، ثم اتجهت إليه والتفت ذراعي حول فخذاه، رفعني نحوه وقال: "متخفش..هتلاقيها عند طنط نادية جارتنا..هروح أجبها،خش أنت نام". طرق أبي باب طنط نادية وأعاد أمي بكلماته الرقيقة، وأتي الليل لأستمع لصرير سريرهما حتي غفوت. عادت امي من جولتها التفقدية لجواربي الغريقة في شباك المنور، وضعت شالها البيتي علي الكنبة القديمة وقالت"سنوية ابوك الأسبوع الجاي.. هتكون فكيت الجبس من دراعك"، وجدتني اسدد لها نظرة أبي العالقة. وبدأ الليل يدخل، وأشعلت امي سيجارتها الثانية في المطبخ، وجاءني صوت سعالها بينما كنت أفكر في حنان. كعشب بري، لايمكنك أن تسيطر علي المسطحات التي يتمدد عبرها، نمت مشاعري تجاهها، فتركتها تنمو، لتغزو قلبها الطيب، دون فهم واضح لسبب الجاذبية التي تشدني إليها، ليظل أجمل ما في الحب هو غموضه، بالطبع، بجانب تلك الومضة الناجية من سخط الحياة؛ اللقاء. كانت حنان ،هي تلك الومضة،الرعشة الخارجة من وجود طازج، أرق، تماما مثل نبرة صوتها، وقد كنت أعزو كل اكتشاف جديد فيها، علي أنه: النتائج التي يصنعها الحب. تعرفت عليها كزميلة عمل في محل لبيع الزهور البلاستيكية، الزهرة الصناعية لاتحتاج لذكريات؛ لأنها لاتذبل فتراكم مناسبة علي الماضي، الزهور البلاستيكية عدوة الماضي، ولا تتحول لشاهد تذكاري لحواديت العشق، كما أنها لاتحمل رائحة سوي رائحة البلاستيك، ربما لذلك أخترت تلك الوظيفة. كنت أود أن أشتم ما اشعر به داخلي،الفناء. كنت اخوض مرحلة قاسية في حياتي،لا أعرف ماذا علي أن أفعل، أو ما الذي أريده، وكنت أشعر بأن شيئا ما مهما يفوتني في الحياة ولا سبيل لإدراكه، وكانت تسيطر علي مشاعري حالة من اللاجدوي ،وفقدت الأمل في العثور علي البوصلة التي ستوجهني، فبعد أن مات أبي بشهور، أدركت حجم خسارتي فيه، وكيف أنني قد خيبت رجاءه، كان يراني انتقل من وظيفة لأخري دون أن اخرج منها بأي خبرة، كان يتابع رصيدي الفاني من الخبرات بنظرة حزينة، كان كل ما يشغلني وقتها هو أكتشاف الحياة في اكثر من جانب ووظيفة، مغامرة لم يفهمها غيري. "شكلها حتشتي طول الليل!!"، جاء صوتها محمولآ بمسرة طفولية، جعلني أتجه إليها، حتي جلست برفقتها علي طاولة المطبخ الصغيرة، وعبر النافذة الطويلة، ألقيت بصري علي نهر الشارع، كان المطر يسقط فوق كل شيء، السيارات.. الناس.. الذكريات البعيدة.. أعمدة الأنارة الهزيلة.. الزمن... واجهات البيوت.. مشاعر الندم.. يافطات الدكاكين.. قنديل الحلواني.. براثن الحزن.. مظلات المطر.. الماضي.. مئذنة الجامع الشاهقة.. الكلام وسوء التفاهم ..الأسلاك الكهربائية الغليظة.. الأماسي المضغوطة.. فوق الشرفات.. فوق حنان.. فوق أمي.. وفوق الرصيف، حتي يرتطم بالأسفلت ويضيع وسط برك المياه في انتظار شعاع الصباح ليصعد به من جديد. عدت ببصري إليها وقلت"فعلاً..شكلها كده!" لم يدخل الله إلي قلبي حب الحلوي، لشيء ما، لم أكتشفه بعد، يقولون أنه كان لنا قريب في عائلة أبي، ترك في لحظة كل شيء وراءه، الوظيفة والبيت وطفش، وأنه قد أمتهن التطلع لوجوه الناس، وظلوا من وقت لآخر يلمحونه سائرآ في الطرقات بثيات أنيقة يتفحص وجوه السائرين بنظرات حادة، وأنه ظل مؤمنا بفكرة مجنونة همست له بأن عليه البحث عن الوجه الذي سيحدد له مهمته في الدنيا. البعض يقول أن أحد أولياء الله قد زاره في المنام وهتف له بذلك، والبعض يحلف بأيمانات المسلمين بأن السبب هو أنه ظبط زوجته تضاجع فوق سريره أعز اصدقائه، وهناك من يشك بأن الكتب قد أتلفت عقله ،وهناك من رجح بأن عفريت قد مسه، لكن أحدا لم يذكر اسم هذا القريب، وظل أبي يشبهني به بعدما استعمر اليأس كل محاولاته لزجي في أن اصبح حلواني. كلما عبرت ذكري هذا القريب الذي شط من أمام خاطري، يرسم له خيالي صورة واحدة لاتتغير: شخص فقد نهائيآ وللأبد الدافع الباعث علي الرغبة، فسقطت معه صورته عن نفسه الحياة، فقد ،حتي جاءني في الحلم. "متكتبيلي حاجة ع الجبس" وامتدت يدها للدرج الأخير في دولاب المطبخ السفلي لتخرج قلم فلومستر غليظ وكتبت"حاجة". من أين يأتي الحب؟ ربما... من الرغبة في الاشتهاء، ذاك التيار الخفي الذي يسري بداخلي؛ فتتبدد ألوان الحياة المتربة لألوان زاهية، وأبذل المزيد من الكذب والصدق والقبلات والخوف السري من الفراق والأحضان والعصبية وتفسير لمعني "الغيرة"، وأشرب مع حنان أكواب الليمون الفريش وفناجين القهوة، ونصغي السمع لأم كلثوم وأنغام ومنير وعمرو دياب، وتتشابك أيادينا وأقول لها بينما نعمل"بحبك"وأرسم علامة قلب، وأقذف وردة عليها دون أن تراني صاحبة المحل، فتخبرني بأنها تريد وردة بلدي. سيمر وقت قبل أن أتساءل: هل أشتري لها وردة بلدي ذلك الذي شغل قلبها لتتركني من اجله وتنهي العلاقة معي بضربة فأس قوية، لتجعلني أخلص الأستماع لعلي الحجار ونبرتة الجارحة "أنا كنت عيدك" وأزور صديق أبي الوحيد عم حمدي، في بيته، لأسكب الويسكي في جوفي وأشكو إليه حالي، وتربت يده فوق كتفي ليواسي، يقول "مش لو كنت سمعت كلامه كان زمانك ماسك مكانه دلوقتي بدل العرص إللي جابوه "وينزل علينا سهم الله فندخل في صمت هائل حتي يقول"أبوك وحشني"فأخرج من عنده لأدخل مع أبي في حوار يمتد بطول طريق العودة إلي غرفتي، وقبل أن أرتمي