ليس أبأس من الجيل الذي أنتمي إليه سوي الزبون الحافي الذي أمره واحد غتت- أكيد ديكتاتور- بأن يجمع الدقيق المنثور فوق الأشواك في يوم ريح. لست شابا, ولست عجوزا.. المرحلة العمرية التي وصلت إليها- أوائل الأربعينات- سخيفة.. من يصغرونني بعشرين عاما أحيانا يقولون لي' يا عمو', وبعضهم يقوم لي في المترو.. ومن يكبرونني بعشرين عاما مازالوا يعتبرونني شابا طائشا. أنتمي إلي جيل' زي ما يكون', وأنا الآن زي ما اكون شاب وزي ما اكون عجوز.. أحيانا تأخذني الحماسة وأتصرف كفتي في السابعة عشرة, وأحيانا أتحدث مثل جدي, وأقول إنني كنت أشتري العشرة أرغفة بخمسة قروش( وهذا حقيقي). قذفت بي الجامعة, عام1990, إلي سوق عمل لا ترحم, ووطن- مصري وعربي- يترنح بعد ضربة غزو العراق للكويت, ويستعد لكي يتمزق إلي الأبد بفعل حرب الخليج وكل الحروب والصراعات التي تلتها. عملت في الأهرام وأكثر من سبوبة معارضة ومستقلة: العالم اليوم, الدستور, الفن السابع, نهضة مصر, وغيرها.. كنت زي ما اكون حكومة وزي ما اكون معارضة, وزي ما اكون مستقل أيضا. كافحت وجاهدت علي أرض بلدي, ورفضت أن أسافر للخليج مثل مئات غيري, فضلت' عقود عمل' لا تتجاوز خانة المئات في المهندسين ووسط البلد علي آلاف النفط, وكونت نفسي وزوجتها بفلوس مصرية وعلي أرض مصرية. من حقي إذن أن أرفض أن يقال عن جيلي إنه جبان أو خرع.. ارجع معي إلي أوائل التسعينيات من القرن الماضي واحكم بنفسك.. لم يكن هناك إنترنت, لم يكن هناك موبايل, لم تكن هناك قنوات فضائية.. ولا أرضية وحياتك.. كان عندنا الأولي والثانية فقط, وعندما أنشأوا القناة الثالثة عملنا لها عيد ميلاد يا راجل.. كان من الصعب أن تتصل بصديقك في بيته, وكان من الأسهل أن تذهب له.. فكيف بربك سنتواصل ونتصل ونتفق مثل شباب ثورة25 يناير الجميل؟ لا أريد أن أجلد نفسي, أو جيلي, أو الجيل الحالي.. لا أريد أن أجلد أحدا علي وجه الإطلاق.. لن أقول إنني نشطت علي الفيس بوك لدعم الثورة وإنني وصفتها بالمجيدة وبالثورة الشعبية الناجحة الوحيدة في تاريخ مصر قبل حتي أن يكتمل هذا النجاح.. ولن أشمت في غيري ممن قالوا العكس واضطروا بعد النجاح الساحق لتغيير كلامهم.. أنا الآن سعيد, وفخور بأنني مصري, ومتفائل بعد سنوات أكلني خلالها الاكتئاب. أنا الآن, مع غيري من المصريين, أتطلع إلي' مصر الجديدة' التي نسعي كلنا إليها.. وأفكر مثل غيري في كيفية تحقيقها والوصول إليها. رأيي أن البداية تتمثل في انسحاب رموز وذيول النظام السابق وحزبه الحاكم المأسوف علي شبابه من الحياة العامة تماما.. وأقول لهم: شكرا.. انتهي دوركم وانتهي زمنكم, وحان الوقت لكي تتصرفوا برجولة مثل القائد العسكري الذي يخوض معركة وينهزم فيها فيعترف بالهزيمة ويستسلم.. وينسحب ذلك علي الصحافة المصرية بمعظم أنواعها واتجاهاتها, التي يجب أن تتخلص من هذه الذيول, ليس انتقاما من بعض الأشخاص الذين كان مؤهلهم الوحيد للوصول إلي مناصبهم عضويتهم في الحزب الذي كان حاكما, ولكن لأن استمرارهم معناه استمرار أفكار وتوجهات أصبحت في ذمة التاريخ ولم تعد لها أي صلة بالواقع المصري وتطلعاته المشروعة الآن, مع الاعتراف بمهنية وحرفية عدد منهم بغض النظر عن الانتماء السياسي. أطالب بدستور جديد يساوي بين جميع المصريين, ويلغي خانة الديانة من بطاقات الهوية, ويفتح باب الترشيح للانتخابات النيابية والرئاسية للجميع بدون شروط, إلا الشروط المنطقية المتعلقة بالجنسية والسن وحسن السير والسلوك وخلو الصحيفة الجنائية من أي سوابق, إلي آخره.. وأطالب بإلغاء نسبة العمال والفلاحين لأنها أصبحت نكتة, وأصبح المليونير الذي يمتلك عدة مصانع يدخل البرلمان كعامل, وأصبح المليونير الذي يمتلك آلاف الأفدنة يدخله كفلاح.. وأطالب بإشراف قضائي كامل علي الانتخابات البرلمانية والرئاسية مع رقابة من منظمات المجتمع المدني, علي أن يكون ذلك مصريا مائة بالمائة, حيث أرفض بشكل تام أي تدخل أو رقابة دولية. أدعو لتحديد فترة رئاسة أي حاكم, حتي لو صنع المعجزات, بمدتين فقط, مع تقليص كل مدة إلي أربع أو خمس سنوات, بحيث تكون أقصي فترة يمكن أن يقضيها أي رئيس في حكم مصر عشر سنوات, وهي كافية جدا لتنفيذ أي خطط أو مشروعات مهما كان حجمها. أحلم بوطن يسمو ويعلو علي كل الأشخاص حتي لو كان الحاكم, لا يرفع سوي العلم المصري, ولا يضع سوي صورة علم مصر في مكاتب المسئولين وغير المسئولين.. وطن لا يطلق سوي أسماء مصر ومدنها ومعالمها علي مدارسه وجامعاته وقاعاته وقلاعه الثقافية والصناعية, بل وجوائزه.. لا نريد جائزة مبارك أو ناصر أو السادات, بل جائزة مصر.. ولا نريد أن يتعلم أولادنا في مدارس وجامعات وأكاديميات تحمل أسماء حكام سابقين أو حاليين. أحلم بمجتمع مفتوح, تتاح فيه الفرص للجميع بالتساوي, ويكون معياره الوحيد الكفاءة والخبرة, ويطلق بالثلاثة المحسوبية والوساطة, ويوقع المسئول فيه, قبل توليه منصبه, إقرارا يتعهد فيه بعدم الموافقة علي تعيين أي من أقاربه حتي الدرجة الرابعة في أي موقع يشرف عليه. أحلم بشوارع دون قمامة, وقانون يجرم إلقاءها ويحاسب المسئولين عن نظافة وتجميل المدن في حالة عدم رفعها.. ولا أبالغ إذا قلت إنني أحلم بقانون يجرم البصق علي الأرض وإلقاء المخلفات من السيارات الفارهة, وقانون يلزم من يرغب في البناء بمراعاة الطرز المعمارية والجمالية للمنطقة التي سيبني فيها حتي نتخلص من وحشية التوسع العمراني.. أحلم ليس لأن هذا هو وقت الأحلام ولكن لأنه وقت تحقيقها.. نعم نستطيع أن نحقق كل الأحلام إذا استمرت روح تغليب مصلحة الوطن الغالي علي المصالح الشخصية الضيقة.. لقد بدأنا ولن يستطيع أحد إيقافنا.