سبع سنوات حملت في طياتها طعم الفراغ.. كل لحظة تشعرك وكأنك في مفترق طرق.. لم يكن لديها سوي موضوع واحد للنقاش.. سيطر عليها. كبلها بقيود لم تستطع منه فكاكا. بل صار مسألة حياة أو موت.. سايرتها فيما انتوت علي أمل.. فاشتعال الرغبة عندها لا حدود لها.. رغبة متأججة طامحة ملكت كل جوارحها.. عرفتها أرملة تخطت الأربعين.. تمنت أن يصير لها بذرة جنين كامن. تتوهج في باطنها تبدأ منها الوجود.. يشتد عودها.. تتطاول فروعها.. تقف بجانبها في لحظات الوهن.. مرفأ أمان ترسو عندها.. امتدت الأيام والسنوات والحلم يتمدد في فراغات الحنين داخلا في دوائر المستحيل.. انتفضت من هول المفاجأة.. أصابها الذهول.. وراحت فيما يشبه الغيبوبة.. تلبستها حالة يصعب علي أن أصف أحاسيسها في تلك الحظة.. أفقتها.. خمدت ثورتها, وإن بقت تكابد الشوق.. تعاني قسوة الانتظار الذي كان يقودها أحيانا إلي شطط.. عجزت عن اقناعها بأننا لا حيلة أو مخرج إلا ترك الأمور للمقادير.. وقد نعثر علي وسيلة للخروج طالما مازلنا أحياء ولا معني لفقدان الأمل.. فلا يقين سوي الموت والحياة ليست سوي لحظة عابرة تكسرها النهايات الحتمية.. مع أني أدرك أن أحلامي تيتمت.. نحوم حول الحقيقة ولا نصب لبها.. متصورين أن سبيل الخلاص في متناول أيدينا.. فنفقد المشاعر! ؟ إلي شئ آخر.. في البداية خيل إلي أنها سحابة ما تلبث أن تتلاشي. لكنها دامت. أضحت كبركان علي حافة الانفجار.. صارت الأمور من سيئ إلي أسوأ.. الأجواء صفوها تعكر.. بحر الحياة صار فارغا رداءه في العلاقة.. تعطلت لغة الكلام.. وبدا العمر يزحف نحو مدارات الخوف من الآتي الذي لم أعد متيقنا من ملامحه.. حرت فيما تضمره, وتنوي عليه.. أخذت فترة من التأمل لأستعادة هدوئي وتوازني. علها تغير مسلكها.. ترمم مسارها وتثوب إلي رشدها.. وأن ما حدث تصرف غير محسوب دونما وعي أو تدبر.. وربما ضغوط نفسية واجتماعية كانت رازحة تحت تأثيرها. فالنفس البشرية ليست كتابا يقرأ.. ننهل منه ما يروق لنا, ونرمي الآخر علي قارعة الطريق.. وطاقة الإنسان مهما اتسعت لها نهاية.. بسطت حبل الود لعودة الجو العامر بالدفء الإنساني.. فهي الآن في حاجة ماسة لرتق جراحها.. ولا أخفيكم سرا أنني أيضا خشيت الولوج في براثن الوحدة.. أمر بالغ الصعوبة.. حيث لا رفيق إلا الصمت.. ومسحه من يقين ملموس كانت تصلني عبر حواسي بدنو موتي وحيدا, وحين يبحثون عني الأقربون يكون مكاني شاغرا.. أحيانا أشفق عليها لحنينها للأمومة.. رغم أن الأحلام ناءت عند التخوم حيث ينام المجهول.. مر وقت طويل وثقيل.. وهي كما هي.. كان لا شئ في المدي, وأنا كالواقف علي حد السكين. مدركا أنني في أزمة إذ كيف أداوي جراح امرأة مليئة بالحرمان؟. وتنتظر مني أكثر مما أستطيع أن أعطي.. ملكت صبر أيوب.. حاورتها لكسر حاجز الصمت الذي يعلو بيننا.. فك الحصار المضروب حولها ممن يوشون بها بأفكار مغلوطة.. فالعقم الحقيقي في التفكير وليس....., والحياة المشتركة لا خسارة دائما.. لحظات وما توقعته وقع. علت بثوراتها إلي المنتهي.. متهمة إياي أن كل ما قلته من صنع خيالي.. وتصوراتي المريضة.. وعدم إتباع التعليمات وأشياء أخري.. أرادت أن تبرهن علي صحة أقوالها كأنما تستهدف تبرنتها.. انتهي الحديث دون رغبة مني في وصلة.. لم أجد شيئا في خيالي أقوله.. خلا ذهني تماما من أي جملة أو حتي كلمة.. جلست وعلامات الضيق شقت لها طريقا عبر وجهها الشاحب.. ضغطت علي شفتاها السفلي.. صاحبتها رعشة. ثم انغمست في نوبة بكاء حارة.. أدركت أنني قد صدمتها.. كان يجب أن أكون حذرا وأضع في اعتباري ذكري السنوات السبع التي شهدت إحباطاتها كل شهر.. لم تستطع أن تمحو انفعالها وارتباكها المتصاعد كلما أبديت ملاحظة, وأظنها الآن تلعنني, وتصفني بالرجولة الضائعة.. وتنعتني بكل النعوت التي تشتهيها, والأقدار التي رمتني في طريقها.. ساد صمت طويل فيما راحت رأسي تسترجع كل التفاصيل بشئ من الروية.. تفاصيل ظلت مؤجلة إلي حين.. حتي باتت علي قناعة ليس فيها لبث أو تأنيب للضمير.. بأن ما حدث ويحدث لا يجدي نفعا طالما مصيره الفناء.. بعد كل محاولات الإصلاح فكان منتهاي معها.. متحررا من عبء الهوس الذي ألحقته بي.. وليضمد كل منا جراحه بالطريقة التي تناسبه وبقيت وحدي في عزلة البيت الثقيلة.. الوقت يمر من عنق الزجاجة.. وتحول الصمت إلي كابوس, ونوم الليل إلي هاجس مس روحي لآخرها.. ظللت مسهدا حتي بدت حواسي تتهاوي كأوراق الخريف.. ومحيط تنفسي يختنق.. فتحت النافذة.. تنفست ملء رئتي.. الشارع ساكن دون دبيب خطوات أو أنفاس.. السماء مغلفة بالضباب.. القمر متواري خلف السحب.. شعرت بالبرد.. أغلقت النافذة.. وبقي الليل أطول من ساعاته.. كل ما حولي صار واجما.. ووضعتني الوحدة مع ذاتي وجها لوجه.. حدثتها لا تحقق من أنني لازالت علي قيد الحياة.. راودتها كي تنقب عن شئ يشغلني.. وكانت المفاجأة التي لم تخطر لي علي بال.. ومن حيث لا أدري ولا أحتسب وبلا سابق إنذار هوي طيفا يحمل شكل قوامها وملامحها كأنها ما فارقتني منذ أن رحلت إلي ما وراء الوراء.. اتسع مجال رؤيتي رغم الضوء الباهر الذي غشيني.. التقت العيون.. غنني شعو مراهق.. تمنيت أن أحس بها مستلقية بجواري.. أتت لحظة العناق. انفجرت ثنايا الصدر الممتلئة شوقا وحنينا.. رجوتها في نداء داخلي ومناجاة خفية ألا ترحل.. ألقيت بنفسي بين أحضانها.. اجتاحتني مثلما تجتاح المياه الأرض البوار.. شق صوتي جسد الكون كله.. وغفوت في ساحة الحلم الجميل.. وعندما صحوت رأيتها كسحابة تزين السماء.. أطلقت صرخة مكتومة.. تضاعف عجزي عن الإدراك.. فما يحدث ما هو إلا صدي لذاكرة تضيع.. بين جدران الوحدة والاغتراب وكوابيس آخر الليل.. في ظل مناورات النوم المستحيلة.. صراغ غير متكافئ, ولكي لا أفقد توازني نهائيا.. أحضرت ورقة وقلما.. قسمت الوقت والمهام علي مدار الأربع والعشرين ساعة.. ما بين شراء لوازم البيت.. تنظيفه وترتيبه.. غسيل الملابس وتعليقها.. إعداد الطعام.. في بعض الأحايين كنت اتعمد نسيان بعض الاشياء. لانتزع بعض الوقت كنوع من التسلية.. ثم اغسل اسناني, وامام المرأة احلق ذقني, وانتهي بحمام دافئ.. قبل الذهاب لاستهلاك بعض الوقت عند جبريل وعلاء علي شاطئ البحر.. جلسات الفضفضة ونحن نحتسي الشاي.. نراقب الموج وصراعه مع النفايات والمخلفات التي تلوثه.. بقوارب الصغيرة رائحة غادبة بحثا عن ارزاقها, وعند انسحاب الشمس راحلة الي العالم الآخر.. اعود لمشاهدة التليفزيون.. علني اسمع واشاهد نجاة او فيروز او صباح فخري.. فلا أجد غير الصراعات الدائرة.. عنف وراهاب.. مشردين في الخيام.. غرقي في البحر.. موت مجاني علي الطرقات المتوحشة.. نعيق غربان واصوات طيور جارحة.. عبت لايوجد من يوقفه.. اصابني التمزق مثل جسد تقطعت أوصاله.. اغلقته ولجأت الي القراءة وانا اقول لنفسي التي تضخمت هواجسها: كيف وصل العالم الي هذا الحد من التردي؟ وهل أصبح مثل التوحيدي في عزلته وخيبته؟ وتظل ايامي مرصوفة بالإخفاقات!! حار عقلي من علامات الاستفهام التي تدق رأسي بجنون وتوازني الذي صار في مهب الريح.. حاولت الهرب من هذا الغزو الي النوم ربما يضعني تحت تصرفه.. مختبئا من النفس اللوامة.. وما بين لحظة الوعي واللاوعي ارتفعت أسوار العزلة.. وظهر الوسواس الخناس من مكان اجهله. هل أغلقت مفتاح الغاز؟.. بقايا الطعام وضعته بالثلاجة, وانت عائد ألقي نظرة علي الباب الخارجي ربما يكون مفتوحا.. نهضت مفزوعا.. شممت ورائحة عرقي.. صرخت من عمق ذاتي.. فملأ الطنين رأسي.. وأنا في محاولة مضنية للتخلص من قيودي.. تناولت ألبوم الصور الذي بجواري لعله يخرجني مما أعانيه.. أشعلت سيجارة.. لم أعرف منذ متي بدأت أدخن؟ لكني متذكر أول من اعطاني إياها. تسلل إلي بعض الهدوء.. جبت أرجاء البيت فألفيت كل شئ في غير مكانه وما عدت أعرف إن كانت المكتبة هنا أم هناك, والدولاب لصق الحائط أم العكس,, والأنتريه هناك أم هنا.. حتي السرير كان في المنتصف أم بجوار الباب.. وساعة الحائط خيل إلي أنها تسير ببطء كأن قوة ما تجذبها إلي الوراء.. فكرت في إعادة ترتيب كل شئ.. من أنت؟ ليست أنت. بل أنا, وربما الآخر جالسا يستعيد شريط حياته كله.. آملا في خيط أمل ينجيه ليتأكد أن كل ما حدث لم يكن إلا كابوسا يحمل في طياته طعم الفراغ..