كان جسده أضعف من أن يحتمل رجفة فكرته المدهشة التي نادته وهو علي شفير الهاوية وجعلته يتقلب علي موجة قلقة ويخاف علي نفسه من نفسه. لم يكن مخطئا تماما، فعلي الذاكرة ان تتريث قليلا وتخضع للتفتيش الإجباري لعصر افكاره، ومصادرة أحلامه. خيل إليه أن الضوء ما هو إلا إغواء لحياة سلبت منه، وان الليل هو خباء الرحمة وسر الوحدة، وحافظ الألم وخالق الحلم رغم أنه لا يري وجهه في الظلام فمرايا الليل خادعة تأتي بوجوه كالحة ونجوم لا ترنو إليه فقد غارت في السماء. جلس إلي طاولة الكتابة، كانت ذاكرته خاوية أمام الورقة البيضاء المفرودة أمامه، ارتعب فعدوي الكتابة لا تطاوعه والكلمات تفر، تفقد بكارتها، لا يستطيع ان يدافع عن هروبها فالصفحة البيضاء أدهي وأذكي منه ومنها، تسخر من عجزه علي البرهان، فالوحي مخبأ في السماء السابعة، يبتعد عنه ويقترب منه، مسجي أمامه في صورة ظله، ضعيفا كذاكرة ناحلة لا تحمل ندبات ولا تفيض بالعسل، ذاكرة عالقة بين النعاس واليقظة، شئ يناديه، يجرجره، يدور به، حرف، حرفين، ثلاثة، تريد أن تخرج من دماغه الصغير إلي السبابة والإبهام، تملي عليه كلمة، كلمتين ... الورقة البيضاء تتلطخ بمداد القلم، يا له من رنين جميل عذب يحيل الحروف إلي كلمات، أشكال، ألوان، رائحة، إيقاع، موت وحياة. الآن امسك بها، قبض عليها، جردها من ثيابها، جعل من تكويرة نونها استدارة بطنها ومن حرف القاف رجرجة نهديها عندما تتماهي بجمالها ومن حرف الألف امتداد ذراعيها للفضاء الرحب، تدعوه لملامسة فتنتها. ينسج الحكاية، يقتحم عوالم مجهولة وغرائبية، يتوه في دهاليزها، طرقتها، ممالكها الواسعة، يتسع الخيال، يلقي بأشيائه .... البحر ، النهر، الظل، الشجرة، الحرب، رائحة الموت، رائحة الزهرة.... يلعب لعبة الغميضة مع كائناته التي خلقها وأصبح جزءا منها، تروضه الكلمات ولا يستطيع ترويضها، يصيبه نداءها الغامض وإيقاعها الصاخب، يأتيه البحر بعذوبته ثم يغرقه بطوفانه الكاسح، تهدهده سحابة شفافة وتغدر به غيمة مثقلة بالأحزان... تغريه الروائح وتغويه وتكبر حاسة الشم لديه، ثم يفقدها وتعود إليه بعد طول غياب، يتقلب بين الأسود والأبيض، يدور بين الأحمر والأصفر، يتطاير بين كلمات الغزل، الحب، الهجر والوحدة، تسيطر عليه الكلمات، تطارده، تعذبه، يحاول الهروب، يقفز عبر سكك حديدية، يعبر صحاري، يحط علي شواطئ الأنهار، يدخل إنفاقاً تحتويه، سراديب، يستشعر الخوف والعتمة، تقع الجريمة التي احبك خيوطها وأغراه ارتكابها، يسمع صرخات الضحية وضحكات القتيل وخوفه، يتوحد مع الشخصية، يجلس علي المقهي، يغازل امرأة ويسافر في جسدها، أمامه أبواب مفتوحة وأخري مغلقة، يحتار أيهما يختار؟، المرأة محلولة الأزرار والشعر ، يراها علي ورقته البيضاء، تمر بها الريح، تهتز ... يمد أصابعه، يتوه الوجه الأنثوي بين السطور، يتراقص علي ظلال شمعة، يغيم في عينيه، يختفي، تمر العجلات علي الإسفلت كأنها تمر علي ضلوعه، ينهمر المطر يبحث عن معطفه، يستسلم للبرد، يستسلم للعيون الذي يقرأ فيها أوجاعه، يهبط مبتلا، يدركه الليل، يرنو إلي منزل في زاوية الشارع لعله يجد الدفء بين جدرانه، تدور علي لمسات أصابعه رسالة وردية، تقر عينيه وتمنحه البهجة والحب، يستعيد الوجوه التي غادرت، ويبحث عن لمسة كف، ينتصف الليل وتغادره الفكرة، وتفر الكلمات مرة.. مرتين، ثلاثاً، تخضعه العبارة ويتوه منه المجاز، يذهب إلي هاجس الصمت الذي يترك بصمته علي الورقة، يتحسس ساقيه علي الكرسي، يحكم نظارته يمسك فنجان القهوة ليرشف رشفة . يقفز من غبشة الورق الأبيض صوت يهمس قرب أذنه: إنك تتحير، تتشكك وتسأل نفسك، هل أنت أنت؟ أم أنت شخصية في الحكاية؟ هكذا تتخبط بين المكشوف والمستور بين المنتوج والموجود، الفانتازيا والواقع، يتنازعك بياض النهار وظلام الليل، مغامرات كاشقة وانكشفات فاضحة ... تحتفي بحركة النصر وتصبح الراوي والمروي عليه وتضيق المسافة بين الوجه والقناع، تصوغ عالما ساحرا يشبه الواقع لكنه يحقق تفرده من خلال استقلاليته النسبية عنك، عالم يتحرر من القوانين، لكنه يخضع لقانونه الذاتي، يطبق عليك الوسن وتعصف بك زوبعة الأزمان الدائرية، يتولد منها الحكاية تلو الأخري يأسرك شبق الكلمات، تنتفض تتقمص أخر، تنتحل اسما غير اسمك، تقترب من واقعية الحياة تبحث فيها عن آثار الأسطورة، لا تستطيع احتساء فنجان القهوة ... تبحث عن إعجاز الكلام السلس، عن اقتران المعني بلغة المجاز وعندما توشك اللغة أن تلبس المعني ويلبسها يهب عليك أهواء الحنين فتفر الكلمات التي أعددتها من بين أناملك إلي بياض الورقة الذي لوثه زفير أنفاسك، ولا يبق في ذهنك إلا التفاصيل الأخيرة، انه عبق الاكتمال ... سطوة الحيرة التي تصارع اليقين المراوغ عندما توشك أن تنتهي ... تأتيك زخات مطر تبلل روحك وتطير مثل الفراشات ... لكن النهاية تأتي بطيئة، بطيئة ... وتكتشف انه لا توجد نهاية واحدة، لا توجد نهاية صالحة، لأنك أنت الذي وضعتها ... مللت من التفكير ومن الكتابة فأردت أن تنهي الحكاية ... كم من شخصية ظلمتها بنهاية ساخرة بائسة متسرعة، آه لو صبرت قليلا، آه لو أغلقت دفتر عواطفك لبرهة من الزمن. تستعين بقرص مهدئ، تحاول أن تسرق الحبكة من الذاكرة، تنقسم علي روحك، تصير إلي اثنين، واحد يحلق في الخيال، وواحد مغروز في تربة الواقع الأليم، وحين يلتقي الضد بالضد يدور الصراع يتسلل من الثقب الذي أحدثه الآخر في قلبك شبح المجهول الغامض، تراه يختبئ في حقيبتك، تحت وسادتك، في صنبور المياه، في رابطة عنقك، ومن فنجان قهوتك يقفز أمامك ويخرج لسانه، تحاول أن تمسكه، تقبض عليه، يصبح هو كابوسك وهوسك ووسواسك .... تبتكر طرقك لتقضي عليه، لتمزقه، تحاول أن تلملم شظايا الحروف حرفا حرفا وتشتق المعني، تصفو، وتشف ويدركك الحلم، ويأخذ بيدك إلي عالم غير منظور، تتملص وتتخلص من ضدك، من آثاره المدمرة... يكتمل المعني بالمعني تنتصر لفكرتك، تتخلص من عدوك، إلا أنك لا تستطيع أن تتخلص من الوجع، وجع وحدتك في زنزانة صغيرة مفتاحها هو الاستمرار في الكتابة، السفر عبر الأزمنة. تحدق إلي وجهك في المرأة فتذهلك التجاعيد التي ملأته وتدرك انك في سباق مع الزمن، تفتح خزانة ملابسك وتنتقي ملابس أنيقة شبابية في محاولة لهزيمة الهرم للانتصار علي خريف العمر، تخرج، تجلس في مقهي مزدحم، تقابل فيه الأصدقاء والحاقدين والأعداء، تتنافس، تتجادل، تستمع، تشحن فكرك وتطيع عواطفك، تستسلم للغواية وتستضيف خيالك وترمم ما انكسر من مرآة الحكاية. تمشي خفيفا كطائر وتبدأ الرحلة، ترتفع قدماك رويدا رويدا عن الأرض الخشنة، يخفق جناحاك وتطير، تطير إلي أبعد مدي، تري من تحتك طرق تعلو وتهبط، تطول وتتعرج، تستدرجك المتاهات ويأتيك هسيس الكلمات ويضئ لك الفضاء قاموس المعني، تجس نبض الحروف فتصير كلمات، جمل، بيوت، أوطان، تواريخ، مراثي وأنبياء وغزاة... تفتتن بمغازلة الزمن واقتحام الفعل الغامض، تدمن الفرح الوحشي والحزن الوحشي والأمل الكاذب وكتابة الرسائل العاطفية ووصف المناظر الأروتيكية، تبحث عن الحب لكنك لا تجده، رغم أن الشهوة والعذاب والغرام هي كلماتك الاثيرة، ففي آخر الليل تذهب إلي فراشك وحيداً ، تصغي إلي الصمت وصوت شخصيات حكاياتك التي تدنو منك وتهزك، لا تعرف إذا كنت تحلم أم مستيقظا، حيا أم ميتا، ربما تكون مريضا أو مخرفا ولكنك تعلم شيئا واحدا شيئا تمسكه بيدك، انك ستظل تكتب سواء كنت يقظا أو حالما حيا أو ميتا فالكتابة هي شهوة الليل التي لا يطفئها جسد مشتعل ولا كأس تفوح منها رائحة الغرام، إنها الخمر التي تسكر، الوهم الذي لا يشفي والهوي الذي تطول فيه الليالي، إنها المهجة الدامية.