في نيويورك منذ أيام أقف صامتا أمام لوحة جورنيكا الشهيرة لبيكاسو بجوار قاعة مجلس الأمن بالأمم المتحدة. وأعيش من جديد مشاعر الصدمة وأجواء الذكرى وأفكر للمرة الخمسين أو المائة عن بشاعة الحروب وما تجلبه من تدمير وتشويه لحياة البشر. وبالطبع أشعر بالحزن والغضب والعجز تجاه ما يحدث في عالمنا اليوم من مآس.. ونحن أمامها نرى ما يحدث الا أننا لا نفعل شيئا. اللوحة رسمها بابلو بيكاسو عام 1937 كرد واحتجاج على القصف الجوي لقرية جورنيكا باقليم الباسك بشمال أسبانيا. وفي القاهرة أجلس في بلكونة أحد الأصدقاء ونحن ندردش معا ونفضفض معا في رحرحة لا حدود لها عن دنيانا وما حدث فيها .. وكم تغيرت دنيانا وكم تغيرنا نحن. وأرتشف بمزاج عال وتمهل تام فنجان القهوة المظبوط الذي يزيد من بهجة استمتاعي ومتعة استماعي للكلام ..»اللي مالوش آخر». وطبعا للبلكونة في حياتنا معنى ومعزة ومكانة خاصة .. منها نطل على الشارع ونتفرج عالدنيا وخلق الله.. «اللي رايح واللي جاى» بينما في الاسكندرية وعلى الكورنيش تحديدا أحاول أن أسحب نفسي بعيدا عن دوشة الناس وضجيجهم المعتاد واسترجع في ذاكرتي ومخيلتي وعالمي الخاص لوحات محمود سعيد وأغاني سيد درويش وأغطس معها في أعماق الذكريات والأحلام .. وبالطبع أتذكر قهوتي المظبوط ومعها أتصفح صحف الصباح .. لعلى أجد فيها ما أقرأه أو ما أريد أن أقرأه. انها وقفة مع النفس ولحظة تأمل لما يحدث حولك وما يحدث بداخلك.. وأيضا انها لحظة مصارحة أنت في حاجة اليها الا أنك كما يبدو غالبا تهملها ولك دائما مبرراتك وتفسيراتك لتفادي المصارحة حتى لا تضطر لدفع ثمنها.. ماديا كان الثمن أم معنويا!! ............... الرسام محمود سعيد كان من عائلة أرستقراطية عريقة في الاسكندرية. ووالده كان محمد باشا سعيد أحد رؤساء الوزراء المصرية في العشرينات من القرن العشرين. محمود سعيد المولود في الاسكندرية يوم 8 أبريل 1897 درس القانون وتولى وظائف بالقضاء. الا أنه استقال في الخمسين من عمره ليتفرغ تماما لهوايته في الرسم. وكما كتب كامل زهيري: «أصبح هذا الارستقراطي العريق أشهر رسام للحياة الشعبية. وأجمل صور في لوحاته الشهيرة المرأة بنت البلد وخصوصا بنات بحري. وقد اشتهر بيننا في الحديث الشعبي عن المرأة الاسكندرانية انها أكثر تحررا وجرأة من القاهرية بنت البلد» هكذا ذكر زهيري مضيفا: «وقد يكون السبب هو البحر والهواء الطلق. وكنا نسمع في شبابنا هذه العبارة الدارجة في وصف «بنات بحري» مياه مالحة، وذيول شالحة، وعيون جارحة». وقد توقف الكثير من الفنانين المتابعين لابداع محمود سعيد تحديدا أمام المرأة في لوحاته منهم حسين بيكار الذي وصف سعيد بأنه «ابن الذوات الذي عشق بنت البلد » وقد كتب بيكار عن المرأة في لوحات محمود سعيد قائلا «لقد أضحت «بنت بحري» السمراء الفاتنة، التي يشع من عينيها وشفتيها سحر أنثوي غامض، والتي كان الفنان يري فيها مخلوقا عجيبا يجمع بين الطيبة والشراسة.. وبين الصفاء النفسي والدفء الجنسي.. وبين الرضا الناعم والحزن القاتم.. أصبحت هذه المخلوقة التي تجمع بين المتناقضات ظاهرة تميز فن «محمود سعيد» ابن الاسكندرية البار.. وابن الذوات الذي ثار علي طبقته، وترك مباهج القصور.. ونزل الشوارع والأزقة، يخالط عامة الناس، يترجم لهجتهم «الإسكندرانية» إلي خطوط وألوان وظلال.. يفرشها فوق لوحاته». أما بدر الدين أبو غازي في كتابه «محمود سعيد» يقول عن «بنات بحري»: «في المرأة بنت البلد وجد محمود سعيد تعبيره عن الخصوبة والأنوثة والجنس وكانت بنات بحري مصدرا من مصادر الهامه ورمزا من رموزه. في أجسامهن.. صرامة البناء في الخارج وتفجر الأحاسيس في الداخل.. ومن المقابلة بين حبكة التنظيم وأعماق الباطن يشع فن محمود سعيد بسحره الخاص». كما أن رمسيس يونان وهو يشرح ما يسميه «طغيان الأنثى» لدى المرأة في عالم محمود سعيد كتب».. انها تارة ست الحسن والجمال وتارة أخرى وتارة أخرى تلك التي تنصب فخاخها لتنقض بعد ذلك وتلتهم». ومن روائع محمود سعيد بجانب «بنات بحري» تبهرنا لوحاته الأخرى ومنها «ذات الجدائل الذهبية» و»على الأريكة الخضراء» و»عروس البحر» و»الملاية اللف» و»ذات الثوب الأزرق» و»حاملة الجرة» والمستحمات» و»عروس البحر» ولا شك أن في هذه اللوحات نجد الفنان المبدع والتقاطه لمعنى النظرة واللفتة والرغبة والبهجة. وفي هذا يذكرنا البرتو مانغويل الذي حدثنا كثيرا عن متعة القراءة وعلمنا تذوق الكلمات «...اننا يجب أن نسعى بجهد الى معنى كل كلمة وكل سطر، لأننا نفترض دائما أن هناك معنى أكبر من الاستعمال الشائع الذي تتيحه لنا الحكمة والشجاعة وسماحة النفس التي نتحلى بها». وبالطبع معنى أكبر أيضا قد نجده بل يجب أن نجده في اللوحات الفنية والمقطوعات الموسيقية وأيضا في الدنيا من حولنا .. ونحن نحاول «التقاط الألماس من كلام الناس» مثلما فعله من قبل د يوسف زيدان بين صفحات كتابه «كلمات». والكاتب كامل زهيري وهو يتحدث عن محمود سعيد ذكر أنه زار بيته وصعد الى السطح حيث مرسمه الذي يطل على البحر. وكتب: «أمضيت أياما مع محمود سعيد في مرسمه، واكتشفت أنه يختار بعض عناوين قصائد بودلير لأسماء لوحته، ومن أشهرها قصيدة «دعوة الى السفر». وقد رسم محمود سعيد فيه وجه رجل ووجه امرأة يتقربان جدا، وكأن بينهما همسات للدعوة الى السفر. وقادني بودلير الى عالم محمود سعيد الداخلي. فقد كان محمود سعيد يشبه شاعره المفضل بودلير في حب المرأة وكان يشمها عابقة عطرا نفاذا وفواحا. كما يراها بعينه الفنية المتفحصة. وكان يطرب لوسوسة أساورها ووقع أقدامها. ولذلك تغنى الرسام والشاعر بالمرأة شوقا وشبقا». الفنان السكندري وصف ماذا كان يحدث بداخله بعد أن أمضى أوقاتا طويلة في متاحف الفنون في أوروبا قائلا: «كانت مصريتي تهتف بي أن أطرح عن عيني كل مؤثر أجنبي. وفرق بين أن تتعلم، وبين أن تبدع. ان الابداع لا يستغني عن التعلم، ولكنه لحظة تتضاءل فيها كل ما تعلمته ليعلو صوتك الداخلي». وقد توفى محمود سعيد يوم 8 أبريل 1964. ولا شك أن القهوة بمذاقها ونكهتها ستظل دائما في البال. والولايات المتحدة احتفلت يوم 29 سبتمبر الماضي باليوم الوطني والعالمي للقهوة. وقد وجدت نفسي في هذا اليوم أفكر وأتأمل وأتذكر المراسم والمعاني والأسرار في ظاهرة القهوة في حياتنا. وكيف أن كوبا من القهوة أو فنجانا منها يشكل نهارنا ويبهج يومنا ويضبط مزاجنا و»يعدل دماغنا». وهنا أجد الشاعر الفلسطيني مريد البرغوتي في كتاب لذكرياته باسم «ولدت هناك .. ولدت هنا» يتوقف للحظات أمام القهوة وسرها ويقول متأملا: «يختلف الناس في سر القهوة وتختلف آراؤهم : الرائحة، اللون، المذاق، القوام، الخلطة، الهال، درجة التحميص، شكل الفنجان، وغير ذلك من الصفات» ويضيف البرغوتي:»أما أنا فأرى أنه «التوقيت».أعظم ما في القهوة «التوقيت»، أن تجدها في يدك فور أن تتمناها. فمن أجمل أناقات العيش، تلك اللحظة التي يتحول فيها «ترف» صغير الى «ضرورة».والقهوة يجب أن يقدمها لك شخص ما.القهوة كالورد، فالورد يقدمه لك سواك، ولا أحد يقدم وردا لنفسه. وإن أعددتها لنفسك فأنت لحظتها في عزلة حرة بلا عاشق أو عزيز، غريب في مكانك. وإن كان هذا اختيارا فأنت تدفع ثمن حريتك ، وإن كان اضطرارا فأنت في حاجة إلى جرس الباب..». وبينما أقرأ هذه السطور استحضر مشاهد ومراسم شرب القهوة في حياتي هنا وهناك وفي أماكن كثيرة مراسم نتمهل معها ونتأمل حالنا وقد ننسحب فيها من لهث حياتنا لنستمتع باللحظة اياها والذكرى العطرة وصحبة الحبايب وحديث الونس في المقهى أو في البلكونة أو في «كوفيه شوب» على الرصيف. وسواء كان ما نشربه أو نرتشفه فنجانا من القهوة أو كوبا من الشاي وما نشمه «نكهة القهوة» أو رائحة المعسل أو دخان السيجارة فالمهم هي تلك السرحة «اللي تخدك لبعيد..لأى مكان وأى زمان» .. تلك الانطلاقة الروحية التي تأخذنا تطير بنا الي آفاق جديدة في عالمنا هناك أو ...عوالم جديدة في خيالنا هنا (وأشير الآن الى رأسي) أما الشاعر الفلسطيني محمود درويش فله وقفة أيضا مع القهوة في «ذاكرة للنسيان....» اذ يكتب «أريد رائحة القهوة. لأتماسك، لأقف على قدميّ. كيف أذيع رائحة القهوة في خلاياي، وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل على البحر لنشر رائحة البارود ومذاق العدم! صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين. ثانية واحدة.. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر». «أريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة، فالقهوة لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت .في وسع الغزاة أن يسلطوا البحر والجو والبر عليّ، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلعوا مني رائحة القهوة. سأصنع قهوتي الآن. سأشرب القهوة الآن. سأمتلئ برائحة القهوة الآن، لأعيش يوما آخر، أو أموت محاطا برائحة القهوة» ............... ونعم «الهدف من الفن هو أن نزيل من نفوسنا أتربة حياتنا اليومية» هكذا تحدث بيكاسو. ولم يتردد محمود سعيد في لحظة ما على تذكيرنا بأن الصوت الداخلي هو المرجعية والملاذ والمرفأ في تخبطاتنا اليومية. كما ينبهنا كل من عاش معنا أو رحل عن دنيانا أن الالتفات أو الالتقاط للتفاصيل هو الذي يعطى معنى لحياتنا. ولولا هذه التفاصيل حتى في شرب القهوة سواء قمنا بتحضير القهوة أو تفضل شخص آخر بتقديمها لنا لصارت حياتنا «بلا طعم ولا رائحة».. مجرد «تحصيل حاصل» لا أكثر ولا أقل!! ووقتها لا عزاء لنا.