منذ مدة طويلة وحتي الآن, طال الشد والجذب بين مصر وألمانيا, حول أحقية عودة رأس تمثال الملكة نفرتيتي إلي مصر أو بقائه مستقرا في متحف برلين حيث هو الآن حتي ان المجلس الأعلي للآثار لم يتوقف يوما عن المطالبة بعودة تمثال الملكة المصرية إلي مصر موطنها الأصلي رغم الإصرار الألماني علي أن وجود التمثال في متحف برلين هو حق ألماني طبقا لقانون تقسيم الآثار الذي انتقل به رأس الملكة إلي الجانب الألماني ومن ثم متحف برلين. آخر التطورات في هذا الإطار, هو ماصرح به هيرمان باتسنجر رئيس مؤسسة التراث البروسي الثقافي وهي مؤسسة حكومية تشرف علي متاحف العاصمة برلين فقد رفض الطلب المصري بإعادة رأس نفرتيتي الموجود حاليا في متحف برلين حيث يجتذب التمثال النصفي للملكة الفرعونية أكثر من مليون مشاهد سنويا. وبرر هيرمان باتسنجر موقفه في بيان رسمي أكد فيه أن نفرتيتي ستبقي سفيرة لمصر في برلين, مشيرا إلي أن الطلب المصري لم يحمل توقيع رئيس الوزراء د. أحمد نظيف كما تقتضي الأصول الرسمية. لم تفقد مصر الأمل علي الإطلاق في المطالبة بإعادة رأس التمثال منذ عام1938 ففي ذلك العام نشطت الدبلوماسية المصرية في محاولة إعادة التمثال, حتي إن هتلر أمر آنذاك مدير متحف برلين بإعادة التمثال إلي مصر, لكن مدير المتحف كتب إلي هتلر يستمهله ويدعوه الي إلقاء نظرة علي التمثال قبل أن يذهب عائدا الي مصر, وهو الطلب الذي فعله هتلر, إذ ألقي علي التمثال نظرة إعجاب كبيرة وظل مشدوها أمام جمال الملكة نفرتيتي وخرج ليعلن أن مكان التمثال سيبقي في ألمانيا. وفي الوقت الذي كان فيه المجلس الأعلي للآثار يحاول إعادة التمثال بشتي الطرق الي مصر فانه بعد تصريحات هيرمان باتسنجر رئيس مؤسسة التراث البروسي الثقافي الأخيرة ليس هناك أمل في عودة نفرتيتي الي مصر مرة ثانية. وكان د. زاهي حواس قد دخل في صراع طويل مع مدير متحف برلين ديتريش فيلدونج حول أحقية مصر في استعادة رأس التمثال. في هذا الإطار, أكد الأمين العام للمجلس الأعلي للآثار, ان مصر طلبت رسميا استعادة التمثال النصفي لنفرتيتي الموجود حاليا في برلين, متهما المانيا بالتدليس. تصريحات حواس ليست سوي ثقب صغير في هذا الجدار الواسع الذي لم يمنحه الباحثون العرب الا اهتمامات موسمية ضئيلة, مع أنه يخفي وراءه ما هو أكثر من نهب الآثار: انه نهب الأرض ونهب التاريخ. الموضوع واسع ومثير, ليس أوله المطالبة بعودة حجر رشيد, وليس آخره المطالبة المتكررة منذ الثلاثينيات باستعادة تمثال الملكة الجميلة نفرتيتي, وبما ان القضية عادت إلي الضوء بفعل المطالبة الأخيرة, لابد من ان نروي قصة التدليس الألماني في مصر كما جاءت في كتاب نهب آثار وادي النيل الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, إذ ان التدليس ليس سوي الصفحة التالية بعد عملية غش وخداع, مارسها عالم آثار نقب في تل العمارنة في المنيا في مصر. لم يكن اسم مدير المعهد الألماني في القاهرة, لودفيج بورخارت, معروفا خارج دوائر علماء الآثار المصرية, الا أنه دخل التاريخ, تاريخ النهب والسلب, في عام1912 حين نسج خدعة افسدت منذ ذلك التاريخ العلاقات الألمانية المصرية. كان عالم الآثار هذا ينقب في مكتبة مدينة أثرية في تل العمارنة, وحسب الاتفاق مع الحكومة المصرية, جمع بورخارت الصناديق الممتلئة بالقطع المكتشفة في الموقع, وأطلع عليها موظفا في مصلحة الآثار, كانت الآثار المكتشفة وفق الاتفاق تقسم مناصفة بين الحكومتين باستثناء القطع التي لا تتوافر منها نسخ عدة, ثم تؤخذ حصة الألمان كي تعرض في برلين. في عام1923, ظهرت في المتحف الألماني فجأة منحوتة لا تضارعها اي منحوتة اخري جمالا, كانت كناية عن تمثال نصفي من الحجر الجيري للملكة نفرتيتي زوجة الملك اخناتون. لم تكن المنحوتة عادية, وهي لا تشبه التماثيل الأخري للملكة التي تفتقر إلي الملامح المميزة. اما تلك المنحوتة, فقد كانت ذات جمال غريب يتخطي زمنه, في ألمانيا, اثار ظهور المنحوتة موجة من الاحتفاء, فيما اشتعل الغضب في القاهرة وثار سؤال: كيف امكن ان تترك قطعة فريدة من هذا النوع الأرض المصرية؟ كان جواب بورخارت مزيجا من اللامبالاة والاصرار علي أنه عرض التمثال النصفي وبقية القطع علي الموظفين المصريين, وسمحوا بمرور التمثال, وهكذا نقله إلي برلين كحق من حقوقه, واثار هذا الجواب اسئلة اضافية: كيف يمكن ان يرتكب موظف خطأ من هذا النوع؟ وحتي مع افتراض حدوث هذا الخطأ, لماذا اخفي امر التمثال وظل بعيدا عن الأعين طوال عقد كامل؟ ولدي البحث عن الموظف لذي سمح بمرور التمثال لدي تقسيم القطع الأثرية, تبين انه لم يكن مصريا, ولا حتي خبيرا في مجال الآثار, بل كان الفرنسي لوفيف المختص بقراءة البرديات وحين سأله المحققون, كيف أعطي إذنا بخروج قطعة لا تقدر بثمن كان جوابه إنه لا يستطيع تذكر الحادثة! وبعد ممارسة الضغط عليه, أقر بانه صدق علي نقل عدد كبير من الصناديق, لكنه لا يذكر تمثالا نصفيا ملونا, من الحجر الجيري, لزوجة إخناتون! وسادت شكوك بأن لوفيف قد يكون خضع للرشوة, من دون أن يتوافر أي دليل علي ذلك. واختفي تمثال نفرتيتي بعضا من الوقت,قبل ان يعود إلي الظهور مع انتهاء الحرب العالمية الثانية1945 ويوضع في متحف الدولة البروسية في ذلك الوقت صارت المانيا قسمين: شرقية وغربية, وانفجر جدال بين القسمين حول أحقية كل منهما بامتلاك التمثال. وكان أن أصدرت المانياالغربية وثيقة رسمية بعنوان لمن تعود ملكية نفرتيتي؟, أكدت فيه احقيتها بالتمثال, من دون إشارة واحدة إلي مطالبة أصحابه الأصليين به, أي المصريين وحين حاول المؤرخ فيليب فاندنبرج في سبعينيات القرن العشرين جمع مادة موضوع سماه سيرة أثرية ذاتية لنفرتيتي اصطدم بجدار مسدود, لقد بذل أبناء لود فيج بورخارت وأحفاده كل مافي وسعهم لمنعه من الوصول إلي حقيقة الصفقة وفي عام1978, كلفت صحيفة دايزت الألمانية جيرت فون باشنسكي تتبع خيوط القصة, فخلص إلي يقين بأن بورخارت كان واعيا تماما بأن المصريين لن يسمحوا له بنقل التمثال النصفي من مصر, فاتخذ خطوات لتجنب عرضه علي المفتشين... لكن, ما هي الخطوات التي اتبعها بورخارت للخروج بالتمثال من دون أن يلاحظه أحد؟ لقد ظل هذا الأمر لغزا, إلي أن كشفت عنه عالم آثار في إيران لرسل تشامبرلين, صاحب كتاب نهب قال هذا العالم ان بورخارت صنع نسخا جصية عدة من التمثال, تاركا نسخة منها في تل العمارنة, بينما هرب الأصلية مع البقية. وفي حديث مسجل بتاريخ18 مايو1918, قال مدير متحف برلين شافير, اضطررت وزملائي إلي القول إنه يتعذر عرض نفرتيتي لأننا لا نملك مساحة, وكنا منزعجين بتقديم هذا السبب الواهي وفي1924, قال لودفيج بورخارت نفسه خبأت التمثال أطول مدة في برلين! وإثر ذلك منعت السلطات المصرية بورخارت من التنقيب, وتقبل هو الأمر رغم قسوته علي عالم آثار وارتضاه ثمنا للتمثال المسروق.