التقيت معها وهي تعدو الطريق مسرعة الخطي.. تتنفس الصعداء.. تبدو في أناقة تامة كغير عادتها.. تغيرت أحوالها دائما.. لقد عرفتها منذ سنوات الطفولة في القرية.. كانت تعاني ليلا.. ونهارا للشقاء.. كانت كغير سائر البشر.. طفولتها مملوءة بشقاء الأم والأب الذي كف بصره وهو صغير.. وكانت تذهب مع الأم في الشتاء تقاوم برودة الأمطار التي تهطل علي رأسها.. وهي تضع علي رأسها نوعا من السقف الأخضر عله يحميها من البرودة القارصة.. ويحمي طفولتها البائسة. دائما كانت تحدث فينا في صمت.. وكأنها تعاتب شقاءها تدندن أحيانا لتضيع الشقاء.. وتبكي أحيانا.. كانت أمي تشفق عليها تطلب من الأطفال الوقوف بجوارها قائلة: عل الأيام تسعدها وتغير حالها. كانت لا تفرق بين الأيام.. فالكل متساوون لديها.. كم كان يضايقني كثيرا حزنها وشجونها.. فأقترب منها وأطلب منها أن نلعب سويا في الأرض الفسيحة أمام دار أبي.. الذي أضاء بنور القمر ونور التقوي.. الذي يوزع الأمان في البيت الهادئ. تصرخ في وجهي.. لأنني أكره اللعب.. فأنا لست صغيرة.. علمتني أمي ذلك وأنا أقوم بمساعدتها كي تحصل علي مقابل شقائنا.. تعبت أجسادنا من العمل.. فلماذا ألعب؟ وفي هذه الليلة.. سمعت أمي والنساء تتهامسن بصوت خافت.. ستسافر بعد شهر إلي مصر.. حيث المدينة والحياة.. المتحركة.. رحت ألتفت إليهن.. ماذ يحدث من خلفي.. عرفت من خلال حديثهن أنها هي.. أتري ماذا سيحدث؟! صرخت أمي في وجههي: أنت صغيرة لماذا تسألين؟ ماذا يحدث يا أمي؟ حدثيني عن الحكاية.. بعد إلحاح مني.. عرفت أن خالتها لم تنجب أطفالا.. وكانت حريصة علي أموال زوجها.. فقرر زوجها استشارتها في الزواج.. فقررت اختيار بنت أختها بعد انفصالها.. وها هي ستقيم مع زوجها. اشتعلت غيظا.. بل هي طفلة يا أمي.. نلعب سويا. من يعلم يا بنيتي قد تكون ذات يوم من إحدي السعيدات.. تستريح من التعب والبحث عن لقيمات الخبز. تذكرت كل هذا وهي تحد في ملامحي.. تعرفني.. لا أعرفها.. تمد يدها.. تجفف دموعها.. أسألها: أما زلت تذكرينني؟ لم تتغير ملامحك.. بل أري الحزن يكسو وجنتيك. وأنت تملأ السعادة وجهك.. والابتسامة تكسو الشفاه.. بل أراك تحلقين معها في الصباح الباكر.. لم تهتمي بالطرق الوعرة المتعثرة. تعالت ضحكاتها.. وعلامات الفرح تعلو من أعماق فؤادها.. بينما فؤادي يتأوه حزنا.. تردد: سأذهب الآن إلي ابني الذي صار طبيبا في المستشفي.. لا تتخيلي كم هو بارع ماهر. حاولت إخفاء ما بي من ذهول وددت أن أصرخ في وجهها: ماذا تقولين.. لكني تماسكت أمام إصرارها علي الحديث. أعلم أن لك بنتا.. وابنا آخر. نعم يا صديقتي.. صار الآن مقيدا في إحدي الكليات.. أما الابنة فهي ستصبح بعد سنوات طبيبة. وقبل أن أنطق بكلمة.. راحت تذكرني معتقدة أنني نسيت. هل تذكرين أنني كنت أخاف قدوم العيد.. وكنت أحترق عندما أري ملابسكن الجديدة بينما أنا ملابسي رثة.. كنت أصرخ: لماذا يا عيد تأتينني؟ واليوم صارت أيامي يا صديقتي عيدا مع أبنائي الذين هم نبراس حياتي. أصمت.. أمام حديثها.. صورة الأمس تكبر.. تتسع أمام عيني. لا تريد أن تفارقني أيضا كلمات أمي عنها.. وعن الأيام التي انكشفت حقيقتها أمامي الآن. أتركها دون أن تعرف عني شيئا.. أسير في الشوارع المزدحمة.. أنتبه علي أصوات وضجيج في الأماكن.. زغاريد.. أطفال تلهو.. ساعات ويأتي العيد.. الناس ينتظرونك مهللين.. وأنا أتساءل: لماذا يا عيد؟ لماذا يا عيد؟! آمال يوسف علي