دائما ما تنفي حركة التاريخ فكرة الديمومة الزمنية للإمبراطوريات بل أنها تؤكد دوما أفولها وإنزواءها وزوالها, وترصد هذه الحركة ذلك المدي الزمني الفارق بين بروز إمبراطورية وأخري وتباينات الطبيعة الذاتية. وترصد أيضا الأسباب الموضوعية المختلفة لموت الحضارات والإمبراطوريات, كما أنها تسرد كافة المؤشرات المبشرة بصعود أي مد إمبراطوري, فضلا عن أنها تسجل لحظات الصمود أمام التحديات وعمق هذه التحديات علي اختلاف ظروف تواجه الإمبراطوريات معها بل وقياس إمكانية التجاوز المؤسسة بالضرورة علي الطاقة الإبداعية الخلاقة لأي منها. وأعتقد أن التشيع للإمبراطورية من قبل أبنائها إنما يمثل ظاهرة طبيعية تحكمها طبيعة التحيز والإنتماء التي تسم الإمبراطورية, لكن مع الإمبراطورية الأمريكية يتحول هذا التشيع إلي تعصب مدعوم من تلك الاستثنائية والانتقائية. فها هو ترومان يعلن أن مسئولية الإمبراطورية الأمريكية أعظم كثيرا من تلك التي واجهت الإمبراطورية الفارسية في عهد داريوس الأول واليونان في عهد الاسكندر المقدوني وروما في عهد ادريان وبريطانيا زمن الملكة فيكتوريا, وأن السبيل الوحيد لإنقاذ العالم من أنظمة الحكم الاستبدادي هو تبني العالم برمته النظام الأمريكي لأن هذا النظام لا يمكنه البقاء إلا إذا أصبح نظاما عالميا. وفي نفس الاتجاه كانت مقولة هيرمان ملفيل نحن الأمريكان الشعب الاستثنائي المختار نحمل وصايا الحريات للعالم. أو مقولة المؤرخ تشارلز بيرد أن أمريكا لن تكون روما أو بريطانيا, كما ردد ريتشارد نيكسون في مذكراته أن الولاياتالمتحدة هي القوة العظمي الوحيدة التي لا تملك تاريخا من المزاعم والدعاوي والحقوق الإمبراطورية علي الدول المجاورة, كما كرر كذلك في موضع آخر أن أمريكا لم تكن إمبراطورية أبدا ولربما تكون القوة العظمي الوحيدة في التاريخ التي امتلكت الفرص ورفضت مفضلة العظمة علي القوة والعدالة علي المجد!! إلي غير ذلك من مقولات يرصدها القاموس السياسي الأمريكي. لكن مع الحركة التطورية لوضعية الإمبراطوريات والمماثلة لظاهرة التزحزح القاري, يسجل أطلس تايمز لتاريخ العالم أن البشرية لم تشهد طيلة تاريخها سوي سبعين إمبراطورية. وتمثل الإمبراطورية الأمريكية في المتوالية التقليدية موضع الثامنة والستون وتليها الصين وينتظر أن يصبح الاتحاد الأوروبي الإمبراطورية السبعين, وهو أيضا ما تنبأ به توينبي من أن استفحال قوة الصين قد يهدد موازين القوي في العالم وهو ما قد يدفع الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي إلي التحالف لمواجهة تلك القوة الخطرة, وهو نفس ما أكده الأدميرال البريطاني كريس باري من أن الفترة القريبة القادمة ستشهد إنهيار نظام القوي في العالم والذي يعود أساسه إلي فترة الحرب العالمية الثانية وتبدأ دول أخري في اتجاه الصعود والنهضة مثل: الصين والهند والبرازيل وإيران وستسعي للإطاحة الفورية بالولاياتالمتحدة وإقصائها عن الإنفراد بوصفها القوة العظمي الوحيدة. وفي هذا الإطار كانت نبوءة ماري بنشوب حروب صناعية بين تلك الدول في ظل زيادة التنافس علي الموارد المحدودة.