دعونا نسأل وبراءة الأطفال في عيوننا عن المصادفة والتوقيت المتزامن لأحداث علي قدر كبير من الأهمية بدأت كلها في العام الجديد الذي لا نزال في نصفه الأول لشهره الأول, وباستثناء ما يجري في السودان من استفتاء كان مقررا من قبل, فان أياما قليلة وربما ساعات كانت تفصل بين العمل الاجرامي بالاسكندرية واندلاع أعمال العنف في تونس والجزائر والأردن, وكأن هناك من يضغط علي جهاز تفجير' عن بعد' لنشر الفوضي علي امتداد الساحة العربية. صحيح أن لكل حدث أسبابه وعوامله المنفصلة تماما عن الأخري, وصحيح أيضا أن كثرة استخدام' شماعة المؤامرات الخارجية' قد باتت أمرا مكررا ومكروها وساذجا في بعض الأحيان, وصحيح تماما وجود ملفات وقضايا حقيقية تستوجب المعالجة الواعية والمستنيرة لحالة الاحتقان المصاحبة لها دون تهوين أو تهويل وبعيدا عن المتربصين من الداخل والذين يجيدون استغلالها لأغراض ومصالح ضيقة. ولكن أليس من الصحيح قبل هذا وبعده أن حجم تلك الأحداث يتجاوز المعايير المحلية وينتقل بالصدي وردود الفعل الي مرحلة بالغة الخطورة تستهدف اشعال الشارع العربي و' تفجيره' من الداخل. في مصر جاء المشهد مخالفا تماما لما خطط له أعداء الاستقرار, وأدي حادث كنيسة القديسين الي ازالة بعض الصدأ العالق بالمشاعر الوطنية التي انطلقت في أبهي صورها لترسم الملامح المصرية الحقيقية التي تكتمل بالنسيج الواحد الذي يجمع أبناء الوطن, ورغم الحزن العميق علي الضحايا الأبرياء الا أن دماءهم لم ولن تذهب هدرا ويكفي أنها صنعت هذا التلاحم الفريد من نوعه ويستقطب اهتمام المتابعين والمحللين الأجانب فيما تتواصل الجهود لقطع رأس الأفعي وانزال القصاص الرادع بحق الجناة والمحرضين, أيا كانوا. واذا كنا لا نستبق التحقيقات الجارية حول الحادث الاجرامي فان أهدافه ليست خافية ولا تحتاج للانتظار حتي نتعرف عليها, ولكن الفطرة الوطنية السليمة للمصريين جميعا أدت لافشاله بل أنه تحول لعلامة مضيئة تؤكد أن لمصر مناعة لا نظير لها ضد مثل هذه العمليات التي قد تزعزع أركان دول غيرها. وقبل أن نترك المشهد المصري لا بد من الاشارة الي ملاحظة أساسية تتعلق بتلك السرعة التي صدرت بها بيانات من بعض الدول والجهات الخارجية تتعامل مع الشأن المصري بطريقة مرفوضة جملة وتفصيلا وتطرح تساؤلات مشروعة حول من يدعون أنهم من الأصدقاء وخاصة الاتحاد الاوروبي, اما الفاتيكان فالقول بتحريف بيانه هو محاولة للاعتذار بعد أن أصبح جليا للعالم أجمع أن محاولة الوقيعة بين أبناء الشعب الواحد هو المستحيل بعينه وعليهم البحث عن مكان أخر لممارسة تلك الهواية المعروفة عنهم, كما ينطبق الحال نفسه علي بعض وسائل الاعلام في الداخل والخارج التي حاولت في البداية استغلال الحادث لبث سمومها ولكنها سرعان ما تراجعت بتأثير مشاهد التضامن والتلاحم الحقيقي في الشارع المصري. ويقودنا الرصد الدقيق لبقية الأحداث علي الساحة العربية الي طرح مجموعة من التساؤلات حول هذا التزامن بين ما جري في مصر وما يحدث في كل من تونس والجزائر, وهل كان الهدف من العمل الاجرامي وتحريك ملفات قديمة في البلدين الشقيقين مجرد جذب الانتباه بعيدا عن مسرح العمليات الحقيقي سواء في السودان الذي يخضع لجراحة بتر جنوبه عن شماله, أو لبنان والقرار الظني المرتقب الذي قد يفجر الأوضاع ويضع حزب الله أمام خيارات صعبه من شأنها تعريض البلاد لأخطار فادحة, ووصولا الي العراق حيث تجري عمليات التجميل علي قدم وساق لاستعادة ملامحه العربية في الوقت الذي تبقي ساحته مفتوحة للصراع القائم بين القوي الطامعة والغازية. وهل ننسي اليمن ومحاولات تكرار السيناريو الأفغاني علي أرضه تمهيدا للتحرش بالسعودية وغير ذلك من تهديدات لم تعد خافية علي أحد بالنسبة لدول الخليج بأسرها في ضوء التصعيد في الملف النووي الايراني وحيث تحرص طهران علي تأكيد حقها بالرد' الساحق' ضد جيرانها اذا تعرضت منشآتها للهجوم. هذه القائمة الطويلة من القضايا والملفات القابلة للانفجار تجعلنا نسأل: من المستفيد من اشعال حرائق جديدة بالمنطقة العربية ومحاولة خلق البلبلة والفوضي التي طالما حلم بها وتحدث عنها غير المأسوف عليه بوش ؟ وهذا لا يعني علي الاطلاق توجيه الاتهام لواشنطن التي نعتقد أن المشكلات الداخلية تهيمن علي أداء الرئيس اوباما, وقد يكون علينا البحث عن الطرف الذي يريد استكمال ما فشل في تحقيقه بوش ولكن هذه المرة لأهداف وغايات مختلفة, مع الأخذ في الاعتبار أن الفواصل تكاد تكون معدومة عندما تتداخل المصالح ويصبح اجباريا للأطراف المتصارعة التوصل الي صيغة مشتركة كما حدث في العراق والقبول الأمريكي الايراني بحكومة المالكي. والمعني أن الساحة العربية مرشحة للمزيد من الحرائق ومحاولات الضغط علي الشعوب ف اطار استعراض العضلات بين القوي المتصارعة, وأيضا وعلي نفس القدر من الأهمية أن تتفرغ مصر وغيرها لأوضاعها الداخلية وتترك الذئاب تنال نصيبها من ثروات المنطقة.