في معظم الفضائيات العربية والعالمية التي تابعت اليوم الأول من اسشتفتاء تقرير مصير جنوب السودان أمس, ظهر جنوبيون علي الشاشات وهم يقولون باي باي خرطوم.. باي باي عرب.. باي باي يا جلابة, وبهذه الشعارات البسيطة يلخص جنوبيو السودان موقفهم من تقرير مصيرهم بإعلان الانفصال. ويعكس هذا الشعار الخلاف العرقي بين السودانيين ذوي الأصول العربية في الشمال, وذوي الأصول الأفريقية في الجنوب.. لكنه يكشف في نفس الوقت عن أن الجنوبيين لا يزالون ينظرون للشماليين باعتبارهم جلابة وهو اللفظ الذي كان يطلق علي التجار الشماليين الذين يعملون في تجارة الرقيق, حيث لعب الرق دورا بارزا في هذه الأزمة المستعصية داخل السودان. في جوبا حاضرة الجنوب السوداني لم ينم الآلاف وقضوا ليلتهم في تظاهرات طافت شوارع المدينة التي نفضت عن نفسها غبار الحرب بفضل اتفاقية السلام التي دخلت حيز التنفيذ عام2004, ورغم أن هذه الاتفاقية التي أبرمت بين الحكومة السودانية وأهم واكبر حركة جنوبية هي الحركة الشعبية لتحرير السودان, قد قسمت البلاد فعليا منذ بدء تنفيذها لكن بعض السياسيين السودانيين ظلوا يأملون أن تؤدي السنوات الانتقالية التي مضت إلي جعل خيار الوحدة جاذبا للجنوبيين. في السودان لم تكن المشكلة دينية بين مسلمين ومسيحيين, ولا بين مسلمين وأصحاب ديانات محلية غير سماوية, لكن السنوات التي تولت فيها الجبهة القومية الإسلامية الحكم منذ عام1989, حتي انشقاقها إلي حزبين هما المؤتمر الوطني والشعبي, شهدت دخول العنصر الديني ليلعب دورا حاسما في توجهات الجنوبيين, بعد أن أعلنت الجبهة بزعامة الدكتور حسن الترابي حربا مقدسة لإنهاء التمرد الجنوبي. وتضافر الصراع الديني, مع ماضي الجلابة, مع الخلافات العرقية الواضحة, وعدم قدرة النخبة السودانية الحاكمة علي صياغة هوية سودانية موحدة تتجاوز كل هذه الخلافات المذهبية والعرقية في إبراز التمايز بين أقاليم السودان المختلفة والمتعارضة, والتي تشكلت علي أسس عرقية ودينية لم تفلح الحكومة في إذابتها وصهرها في شخصية وطنية واحدة واضحة المعالم تتكون من كل هذا التنوع الذي يميز السودان. وفي كلمته أمس إلي مواطنيه قال رئيس حكومة جنوب السودان سيلفا كير أنها لحظات تاريخية, وهي بالفعل كذلك, لأنها تعني فيما تعني ميلاد دولة أفريقية جديدة جنوب الصحراء, تنهي إلي الأبد التصورات الذهنية التي كونها السودانيون عن وطنهم باعتباره الجسر الذي تتلاقي عليه الحضارتان العربية والأفريقية, تمتزجان وتشكلان معا جسرا للتعاون بين الشمال الأفريقي المختلف في البشرة والعرق وربما الدين.. لكن هذا الجسر تحول إلي منطقة صراع دامية, سقط فيها أكثر من مليوني سوداني بسبب الحرب أو التشريد أو الجوع الذي رافق المعارك. رحلة خروج جنوب السودان من الجسدين السوداني والعربي بدأت, في أول تفتيت رسمي لدولة عربية, وبالطبع لن يكون جنوب السودان هو الحالة الأولي والأخيرة لهذا الخروج من البدن العربي, ففي داخل عدد غير قليل من البلدان العربية تبدو عوامل التمزق العرقي والديني وحتي المذهبي قائمة وقابلة للانفجار في أية لحظة وفي انتظار الإعلان الرسمي لذلك. قبل ثلاث سنوات فصلت حركة حماس قطاع غزة عن الدولة الفلسطينية التي لم تولد بعد, وقبل شهرين دعا رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني إلي تقرير مصير أكراد العراق, علما بأنهم يعيشون حسب الدستور العراقي فيدرالية, تبدو أقرب إلي الحكم الذاتي مما يعني أن خطوات الانفصال العملية يمكن أن تبدأ في أية لحظة. وقريبا قد نري أخرين في أرجاء متفرقة من العالم العربي وهم يهتفون أمام محطات التليفزيون باي باي عرب.. ويظل السؤال: أين سيكون الهتاف التالي؟.. وهل يعي السياسيون العرب الدرس السوداني جيدا, ويبدأون في زرع ثقافة الاستقرار والوحدة في أوطانهم؟.. أم سيتركون الأوطان تتفتت بين أيديهم بينما يكتفون بالمشاهدة؟!