تلاشت السحب وبدأت الشمس تزحف علي الأشجار وبدا كل من حولنا منتشيا بنسمات الهواء النقي البارد التي لفحتنا جميعا آتية من مزرعة السجن بعد أن تشبعت بعبق الأزهار و الورد. كان الضابط المرافق قد شرح لي محذرا من التعامل معهن وكان يردد دائما خلي بالك ممكن الكلام يكون جزء منه صح والباقي كذب كنت أتلقي تعليقاته وتحذيراته بابتسامة الفنان الواثق الذي سيجعل قطعة من الصخر الصماء تنطق بقدرته و مهارته في نحتها لتحويلها من حجر صلد إلي تمثال بشري يكاد ينطق معبرا عن مهارة فائقة. بدأت حديثي مع السجينة التي اختارتها الصدفة أن تتحدث معي ضمن مجموعة من السجينات اللائي التقيتهن في ذلك اليوم و لكل منهن قصة وحكاية قابعة خلف أنفاسها عن ملابسات القبض عليها ومن ثم الحبس وحتي الوصول إلي الحكم ومن جانبي كسرت رتابة اللقاء بابتسامة الترحيب و انتهيت من ترتيب التعارف سريعا و طلبت بشياكة من الضابط تركنا في المكتب بصحبة إحدي المرافقات من حراس السجن. كسرت الجو الرسمي و رهبة الموقف عليها و قلت لها: أنا هسألك شوية أسئلة يمكن تساعدك في المحاكمة والتحقيق لتلبية بعض مطالبك من العدالة فردت قائلة: أنا مظلومة.. فرددت بكل وضوح: يمكن مين عارف ناس كتير كتبت عنهم الصحف و تم انصافهم بعد كشف الحقائق كاملة. بدأت إيمان رمضان حسن27 سنة في سرد قصتها لي قائلة: تهمتي هي الشروع في القتل والسرقة و تم اتهامي أنا وشقيقتي جيهان و أخي أحمد و نحن نعيش في منطقة بين البساتين ودار السلام بالقاهرة حياة عادية فأختي متزوجة ولديها3 أولاد بنت متزوجة عمرها21 سنة و ولدان عمرهما19 سنة و10 سنوات وشقيقي يعمل سائق ميكروباص و زوجي أيضا يعمل بنفس المهنة و أنا لدي3 أبناء جنا7 سنوات و مروان4 سنوات ونصف وأحمد عمره عامان. بدت إيمان متماسكة في بداية الحديث وقالت بعد أن ابتلعت مرارة معلقة في حلقها وقالت: بدأت الحكاية مع جيراننا منذ حوالي سنة بعد أن دبت المشاكل بيننا رغم أننا تربينا سويا في نفس المنطقة ولم يكن بيننا سوي كل مودة وحب يواسي بعضنا البعض في الأحزان ونقف معا في الأفراح وفجأة نشب خلاف بيننا وبدأوا يترصدون لنا بعد أن أعلنا نيتنا اختيار زوجة لشقيقنا بعيدا عن أبنتهم التي طلبوا أخي للزواج منها ورفضنا وأعلنا أننا لن نزوجه من الأقارب أو الجيران منعا لنشوب الخلافات والمشاكل. بدأت القضية بعد نشوب مشاجرة بيننا عقب اتهامنا بالسرقة في محضر رسمي عقب مشاجرة أصيب فيها نجلهم بإصابات قدرها تقرير الطب الشرعي ب2% فقط بدلا من اعتبارها جنحة ضرب و تم تقييدها جناية كذلك, لم تكن هناك مضبوطات في القضية تدل علي السرقة وما حدث في المحضر أن التحريات تم تزييفها طبقا لأقوال جيراننا وأولهم المجني عليه الذي دفع أموالا طائلة لتزييف التحريات وعندما تم عرضنا علي المقدم خالد الدمرداش رئيس مباحث البساتين لم يصدق أننا قمنا بذلك وقال لنا بالنص: أنتوا مش قد الناس دول إزاي عملتوا فيهم كده ؟ كذلك جيراننا لم يكن يملكون أشياء ثمينة لسرقتها. فجأة انهمرت الدموع من عيني السجينة إيمان وحاولت كفكفتها بيديها و واصلت حكايتها قائلة: لا أجد معني للسجن ظلما وأنا أم لثلاثة أطفال أكبرهم عمره7 سنوات في قضية ليست لي بها علاقة.. التقطت كلماتها وسألتها مقاطعا: منذ متي لم تشاهدي أبناءك قالت: بقالي سنة بالضبط آخر من رأيت منهم أحمد أصغرهم الذي أرضعته حتي بلغ الفطام وتولاه جيراني لتربيته ومراعاته بمعاونة زوجي الذي يتركهم عند الجيران ويسعي وراء لقمة العيش وهو يعمل سائق ميكروباص وأدعو القلوب الرحيمة من رجال القضاء بالفصل في قضيتي وخروجي براءة لأنني مازلت رهن التحقيق حتي الآن رغم مرور أكثر من عام محبوسة بقرار من النيابة علي ذمة التحقيق ولا آمن علي أولادي إلا معي مهما كان جيراني جدعان معايا أو أهل زوجي معه وأقول لجيراننا الذين اتهمونا ظلما ضعوا أنفسكم مكاننا وهل تقبلون بأن يلقي أطفالكم نفس المصير منعت الدموع إيمان من استكمال حديثها وانهمرت في البكاء وأجهشت وبعد دقائق نصحتها بشرب الماء وحاولت تهدئتها بكل السبل لاستكمال الحديث. وفجأة تذكرت سؤالا حائرا ملأ عقلي وألح علي الخروج بعد أن لاحظت عكازا في بداية اللقاء بجوارها وسألتها: العكاز ده بتاع مين ؟.. إنت مصابة ولا إيه ؟.. كنت أتوقع أن ترد بأنها كسرت رجلها أو أصيبت داخل السجن أو حتي في المشاجرة التي تم حبسها علي إثرها.. إلا أنها فجأتني بالإجابة وقالت وهي نكسة الرأس والدموع مازالت في عيناها: أنا عندي شلل أطفال.. لا تتعجب فالقاضي فعل مثلك هكذا وتعجب من أمري فكيف لسيدة مصابة بشلل أطفال وتستند علي عكاز أن تسرق و تشرع في قتل. سألت إيمان في نهاية الحوار عن أمنيتها فردت وقالت: لا أتمني شيئا من الدنيا سوي أن يفصل القضاء في امري بالحكم أو الإفراج عني علشان خاطر ولادي أو يصفح عني جيراني وأنا في موقف العاجز حتي عن الدفاع عن نفسي أو رؤية أولادي انتهي حديثي مع إيمان إحدي نزيلات سجن القناطر ولم تنته قصص وحكايات النزيلات من وراء القضبان فلكل واحدة منهن قصة تروي جزءا مطموسا من الحياة وسط زحام الدنيا التي كثيرا ما تأتي علي البشر رغم كل ما يفعلونه من شرور بها.