اخترقت حاجز الزحام بالكاد وسط ذلك العدد الهائل من المقاعد التي وضعت بشكل غير مرتب وبصورة متقاربة إلي درجة جعلتني أمشي بجنبي علي أطرافي بحرص شديد طارحا السؤال علي كل واحدة من السجينات ممن يجلسن علي المقاعد.. كنت أقول بكل شجاعة وحماس: يا جماعة لازم تتكلموا محدش هيعرف يتكلم عن قضاياكم ومشاكلكم غيركم.. فقدت الأمل في صف كامل حتي قاربت علي نهايته. محمود زيدان كانت الشمس تتوسط السماء حينما صنعت إحدي السجينات من حجابها نقابا تخفي ملامح وجهها وراءه بكل رهبة.. كنت سأكمل طريقي للصف التالي إلا أن طفلة صغيرة جذبت انتباهي بشقاوتها طوال الوقت.. نبع بداخلي إصرار غير مسبوق لسؤال والدتها التي كانت تمسك بها بشدة خوفا من أن تسقط علي الأرض عن قصتها ولكنني وجدت بابا موصدا كالعادة و فضلت عدم الضغط عليها.. إلا أن نظرة من الطفلة وبراءة عينيها إضطرني إلي الانصياع لرغبات مهنتي وشغفي بالحكايات لمعرفة قصة الأم في يوم الاحتفال بعيدها. لم أتردد في الإلحاح مرة ثالثة و تحفيز الأم التي عرفت فيما بعد مصادفة بأن اسمها وفاء بعد نداء إحدي السجينات عليها بذلك الاسم.. وضعت وفاء يدها علي خمارها وقالت في صوت متخف مثل وجهها رغم ما مر به من آلام ومشقة وراء القضبان: بنطالب بسرعة نقض الأحكام المشددة صدمتني الكلمة رغم تهلل أساريري وشعوري بنشوة المنتصر الذي أنطق الحجر وتلقفت إجابتها باهتمام مبالغ فيه وقلت لها بسرعة مبديا جدية ورغبة كبيرة في الاستماع لها: سرعة نقض الأحكام المشددة ؟.. هو انتي محكوم عليك بكام سنة ؟.. المؤبد.. كانت صرختها التي خرجت لافتة للأنظار.. ومن جانبي لم أتوقع الإجابة و في جزء من الثانية هربت الدماء من عروقي وزاد شغفي لاستكمال الحديث فألقيت سؤالي.. تهمتك إيه ؟.. التحريض علي القتل ؟ فتبادلت الأسئلة في اقتضاب بعد أن شعرت بأنني سأفقد سخونة الحديث وانصياع الأم التي شعرت بأنها تكتم تفاصيل الحكاية في جوفها إلي تسلسل الحوار وخففت من توترها بأن سألتها خارج السياق كم طفلا لديك ؟ قالت متزوجة و عندي3 أبناء أكبرهم ولد عمره13 سنة وأصغرهم سنة ونصف ابنتي التي تراها أمامك.. وسألتها مرة أخري عن الجريمة ولكن بطريقة مختلفة.. فقلت: مع من يعيش أبناؤك ؟ فأجابت: مع حمايا أي جدهم لأبيهم.. وقلت لها وأين أبوهم ؟.. فأجابت: أنا لا أريد الحديث وتذمرت و اغرورقت عيناها بالدموع و ولت بوجهها بعيدا عني.. أخذت نفسا عميقا وتحدثت وأنا أتفحص كلماتي علي الورق بعد أن تظاهرت بالانهماك في ترتيب العبارات والجمل وفصلها بخطوط لكي أعطي فرصة للأم لالتقاط الأنفاس.. فهمت حينها أن السجينة متهمة بالتحريض علي قتل زوجها وأنها قضت مدة بعد النطق بالحكم عليها وعدت أسألها مجددا.. كم مضي من الوقت عليك بالسجن حتي الآن.. قالت: عامان من جملة الحكم بالمؤبد وأنتظر النقض. تسلسل الحديث بيني وبينها بعد أن عرفت دروب ومسالك عقلها واخترت الأسئلة البسيطة التي كشفت لي جانبا آخر من سيدة حكم عليها بالمؤبد لاشتراكها في قتل زوجها.. سرحت وفاء وهي تنظر إلي طفلتها بعيونها من وراء النقاب وبدأت أعرف أصل الحكاية التي بدأت منذ عامين في منطقة الجيزة باتهامها بالتحريض علي قتل زوجها ولم أعرف إن كان سبب القتل الخيانة الزوجية أم الخلافات المالية كالعادة في تلك المناطق ولكن ظهر جانب الأم من شخصية وفاء التي بدت كائنا ضعيفا أمام أغنية ست الحبايب لشادية وقالت: كان نفسي أحتفل بعيد الأم وسط ولادي ورغم شعوري بأنني لن أخرج من هنا إلا أنني أتمسك بالأمل في ربنا لأنني أشعر بأنني مظلومة.. لأن ربنا هيكرمني علشان ولادي اللي معرفش عنهم حاجة وهماه بره.. لأنني أريد تربيتهم أفضل مما تربيت أنا. وبنظرة ثاقبة وتحد واضح تقول وفاء: أنا عمري ما كنت أعرف ولا أسمع عن حاجه اسمها حبس ولا سجن في حياتي.. ولكن ساقتني الأقدار وحظي العاثر إلي أن أكون وراء القضبان بجريمة لم يكن لي ذنب فيها.. ورغم ذلك فقد اعتدت حياة السجن وأعيش أيامي التي أحصيها بالساعة والدقيقة. و لا أجد ما يهون علي أيامي إلا رؤية إبنتي الصغيرة التي لم تبلغ من العمر سوي عام ونف ويبقي لها شهور قليلة وتخرج بعد استكمال عامها الثاني طبقا لما هو متعارف عليه في لوائح السجون ليتم إيداعها إحدي دور الرعاية و سوف يتم حرماني منها طبقا للقانون مثل باقي أبنائي الذين لا يأتون لزيارتي مطلقا بعد أن أمر القانون بإعطاء حضانتهم ورعايتهم لجدهم لأبيهم. رغم تفرغي لرعاية طفلتي طوال الليل والنهار في السجن فأن السجن يظل كما هو سجنا لا نعرف فيه طعم الحرية فكل شيء بداخله بحساب وبمواعيد مضبوطة حتي النفس الذي نتنفسه ومهما وصفت لك لن تستطيع تخيل حجم المعاناة التي أعانيها في السجن خاصة الشهور الأولي لي هنا والتي مرت علي كأنها الدهر لم أذق في حياتي مرارة مثلها. حاولت وفاء كفكفة دموعها التي انهمرت مجددا من عيونها و بدت وهي تقول من أعماقها أنا نادمة علي كل لحظة مرت علي قبل أن أفكر ألف مرة و مرة قبل تورطي في الجريمة التي ستظل تطاردني طوال العمر بعد أن أصبحت في عيون أبنائي قاتلة والدهم رغم أنني أمهم ولا أخشي شيئا سوي نظرتهم.