يقدم الدكتور يحيي الرخاوي أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة رؤيته للشخصية المصرية في ضوء ما شهدته مؤخرا من أحداث ويؤكد أن الشخصية المصرية منذ ثورة25 يناير2011 كشفت عن مكنوناتها و ما فشلت في أن تظهره طوال ما وصفه بسنوات التهميش. الرخاوي في حواره لالأهرام المسائي يقدم خلاصة خبرته في الطب النفسي التي تمتد لأكثر من50 عاما فهو طبيب بدرجة أديب كما يلقبه الكثيرون و طبيب بدرجة خبير يعلم خفايا الشخصية المصرية,ماضيها و حاضرها و مستقبلها, فكان هذا الحوار 4سنوات مرت علي تجربة ثورة الشعب المصري في25 يناير2011 فكيف تقيم الشخصية المصرية خلال هذه الفترة؟ الشخصية المصرية لم تتغير بمعني أنها تحولت إلي غيرها, وإنما كشفت عن مكنونها, وعن ما اختزنته طوال سنين القهر والتهميش, بمعني أنها تعرت فظهر ما وراء الصبر والاحتمال, ظهر بكل إيجابياته في البداية ثم بكثير من سلبياته بعد ذلك. أعتقد أن علاقة المصريين بالزمن هي علاقة تحتاج إلي نظر أعمق. من قال إن ثلاثين سنة أو ستين أو قرنين يمكن أن يخلقوا من هذا الشعب العريق كيانا سلبيا لا يثور مطلقا كما يزعم البعض؟ إن عراقة حضارة المصريين حتي لو لم يتذكرها أحد, أو لم يتعهدها أحد, من الذين حركوا الناس ولا أقول قاموا بالثورة هي أعمق وأقدر علي الصبر وعلي الفعل مما هو الحال عند أمم بلا جذور, مهما بلغ شأنها في الإنجاز المادي, والتفوق الحربي, ثم إن الثورة هي مجرد أحد أطوار دورة من دورات الشعوب, تتبادل مع دورات بناء الدولة وصنع الحضارة, ومن غير المطروح أن يقوم شعب بثورة ممتدة لمدة عشرات السنين باستمرار, وإلا فمعني ذلك أنه توقف عند طور واحد من حركية الثورة غير صالح للاستمرار والبناء. وهل هناك تغييرات سلبية؟ هناك تغييرات سلبية بلا أدني شك لكنها لم تبدأ في عصر مبارك, وإنما قبله بثلاثين سنة علي الأقل, وأهمها الاعتمادية خاصة علي الدولة وخصام العمل وتقديس الكسل وهما واحد, ثم استباحة الغش والشطارة من أول المرحلة الابتدائية حتي الاستيلاء علي المال العام, أما التغييرات الايجابية فظهرت متفرقة في بعض إنجازات الإبداع وبعض نشاط المال الوطني الذي افتقر جامعو عائده أن يتذكروا أن العدل هو الذي يبقي عليه. ما هي التغيرات التي تحدث الآن للمصريين؟ يجذبنا إلي ما يجري في هذه الأيام في هذه اللحظة, هو ملاحظة البدء بموضوعية مناسبة لبناء دولة متحضرة والتركيز علي الانتاج, ملامح الفجر بادية ويبدو أن الشمس سوف تشرق من جديد, لقد تعري الزيف عن كثير ممن خدعونا وظلمونا, وفي نفس الوقت ظهر زيف جديد عن طريق من باعونا أو باعوا مشروع الثورة بثمن شخصي زهيد لقوي خارجية معروفة ومجهولة, وأيضا لقوي داخلية مشبوهة وأفاقة, وعلينا أن نلملم كل ذلك دون أن نبالغ في أحد الاتجاهين, فالثورة إبداع جماعي والإبداع يبدأ بالتفكيك والتعرية, ويكتمل بإعادة التشكيل وهي المرحلة التي نأمل أن تكون قد بدأت منذ زمن قريب جدا. وهل اختلفت الشخصية المصرية في طبيعتها عما كانت عليه قبل الثورة؟ وهل اتجهت إلي الأفضل؟ أؤكد من جديد أن الشخصية لا تختلف في أشهر أو في بضع سنين وإنما يمكن أن تكشف الأحداث عن بقية جوانبها أما التغير والاختلاف فهو يحتاج لعشرات السنين. ثم أريد أن نحدد ما هو التغير للأفضل, وما هو التغير للأسوأ, لقد عشنا مرحلة قبيحة من الطاعة وسمعان الكلام والاستسهال والاستعجال والكسل والغش والتقريب واللامسئولية والتركيز علي الأخذ دون الفرحة بالعطاء, وأعتقد أننا جميعا مشاركون في شيوع كل ذلك, وربما كان ذلك هو الرد السلبي من الناس علي حكامهم لما انغلقوا في أبراجهم يتداولون المال والسلطة بينهم, ويلقون إلينا بفتات موائدهم من الرشاوي المؤقته, والوعود المؤجلة, مغلفة بالاحتقار والطمأنينة لركودنا الظاهر, هذه هي نقطة الانطلاق: أن نعرف ما كنا فيه مما صرنا إليه. تتردد كثيرا مقولة لابد من العمل علي البشر قبل التعامل مع الحجر... فيكف يمكن تطبيق تلك المقولة من وجهة نظرك وكيف نتعامل مع السلبيات؟ البشر يحملون الحجر, يبنون به صروحا من أول الأهرامات إلي المصانع, والحجر ضروري ليسير البشر علي أرض صلبة, البداية لابد أن تكون من الإنسان والانتاج والاقتصاد والتعليم في نفس اللحظة ويستمر الجهد متوازيا متكافلا طول الوقت. طبعا السلبيات عائق مهما كان مصدرها, وهي موجودة في كل مجال دون استثناء تقريبا, داخل الأفراد, كما في المؤسسات, ولنبدأ مثلا بدور الإعلام, الإعلام ليس مجرد تحفيز وتشجيع, المسألة هي إعادة تشكيل الوعي ببناء منظومة من قيم جديدة قادرة علي استيعاب إيجابيات ما حدث, منظومة تقدس العمل وتتقي الله فيه, وتحاسب نفسها قبل أن تضع اللوم علي الآخرين أو الرؤساء, وهذا لا يتأتي بالنصائح الفوقية ولا بالرشاوي التسكينية, ولا بالهتاف العالي, ولا بالشعارات الميدانية, ولا بالإثارة الإعلامية, وإنما يأتي بتوثيق العلاقة بالعمل فالعمل فالعمل, تحت مظلة تقوي الله وحساب النفس وأن ليس للإنسان إلا ما سعي علينا أن نتوقف عن عقد المحاكم في الشوارع والميادين, والخلط بين الاحتجاج والتخريب, كما أن علي التربية والتعليم والإعلام معا, وبالتناوب, أن يقوموا بتوصيل فكرة أن كل فرد من أفراد الشعب هو رئيس لهذه الجمهورية الجميلة في موقعه, فيكون مسئولا بعمله الفردي المحدود المتواضع عن الأربع وتسعين مليونا ثم عن العالم أجمع, ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. وما هو دور شباب مصر بالذات في كل ذلك, وماذا عن إشاعات أحجامهم عن العمل الجاد؟ شباب مصر هو مستقبل مصر, وإحجامهم عن المشاركة إشاعة لم تثبت صحتها لو سمحت, وعموما فإن الشباب لا يقاس بالسن وإنما بالقدرة علي الحفاظ علي الدهشة وبشجاعة المبادأة, وبطول المثابرة, وبالعناد في التمسك بالحق, ثم دعني أحذر الشباب عموما من اللعب علي وتر صراع الأجيال وأيضا من التشبه بقيم مستوردة, وأيضا من الغرور بتصديقهم أنفسهم أنهم أكثر طزاجة لمجرد أنهم أصغر سنا وأجهز اندفاعا. هل أفرزت السنوات الخمسة الاخيرة أسوأ ما في الشخصية المصرية كما هو دارج علي لسان رجل الشارع؟ الذي يقول أن الثورة أخرجت أسوأ ما في هذه الشخصية من طباع ينبغي ألا يتعجل الحكم, فالتغيرات تجري بسرعة يصعب ملاحقتها, وحتي الحديث عن ثورة أو ثورتين, يحتاج منا أن ننتظر لزمن أطول حتي تتم مراحل الثورة الحقيقية قبل أن نتكلم عن ثورات متلاحقة هكذا, لا يمكن اليقين بأن ثورة قد اكتملت إلا بالنجاح في إرساء معالم دولة مستقرة, ذات إنتاج قوي, قادرة أن تصحح أخطاء الماضي لتسهم في الحضارة الإنسانية التي يعاد تشكيلها عبر العالم رضينا أم لم نرض, إن ما ظهر مما يسمي أسوا ما في الشخصية المصرية من طباع هو أمر متوقع, وهو ثمن لا بد أن ندفعه ونحن نمر بمرحلة التفكيك التي لم تنته بعد إلي مرحلة إعادة التشكيل, لا توجد ثورة بلا ضحايا, ولا يوجد مكسب ثوري بلا ثمن, حتي الآن وفي حدود أربع سنوات علينا أن نحذر من ترديد مثل هذه الكلمات بسهولة, حتي التعبيرات السائدة ليل نهار عن آثار الثورة وما بعد الثورة وما قبل الثورة علينا أن نتواضع في ترديدها حتي تتشكل معالم الثورة بمعني بناء الاقتصاد وبناء الإنسان معا, وهو أمر يحتاج سنين عددا, علينا أن نتحمل مسئولية إعادة تشكيل ناسنا وأنتاجنا مستقلا, إذن فالقول بأن هذه السنوات اظهرت أسوأ ما فينا هو قول غير دقيق, وعلينا أن نتذكر أن السوء هو طبيعة بشرية موجودة في كل البشر منذ قابيل وهابيل, منذ الهم الله سبحانه وتعالي النفس البشرية فجورها وتقواها, والذي ينظم الفجور ويبارك التقوي هو الممارسة الايمانية والاجتماعية والثقافية والحضارية المتاحة, فإذا اهتزت كل هذه الممارسات مع غياب الدولة وتشويه الدين وتمزق المجتمع لعدة سنوات, فمن ذا الذي يهذب الشر فينا؟ ثم إن غياب الحس الحضاري أثناء مرحلة التفكيك يجعل العقل البدائي الجمعي هو المتحكم في تصرفات الجماعات العشوائية, بما يشل العمل ويعطل الإنتاج بما يترتب عن هذا وذاك من مضاعفات. هل التغيير في هذه الشخصية وارد؟ و ما هي الصعوبات التي تحول دون ذلك؟ طبعا طرأ تغيير, هذه أحداث جسام لم نتعودها, لكن التغيير ليس إيجابيا كله, كما أنه ليس سلبيا كله, نحن في مرحلة مفترقية( مفترق طرق) طالت أكثر من اللازم, ما نحن فيه ليس إلا بدايات حمل جديد, لا يمكن التنبؤ باكرا هكذا بنوع الجنين الذي سوف يولد, الأهم هو أن نعدله ما يضمن تنمية قدراته لاستمرار الحياة والنمو ومسؤوليتنا هي في احتواء هذا الحمل ليسير في مساره التكويني إلي ما يستحقه المواطن المصري, وما يحمله من جذور حضارية, وإمكانيات إبداعية فتتم الولادة بالسلامة, ثم النمو باضطراد. الرئيس السيسي أعلن عن استحداث منصب مستشار الرئيس للصحة النفسية... فما مدي تأثير هذه الخطوة في الواقع العملي؟ أن يسهم الطبيب النفسي أو عالم النفس في إبداء الرأي والنقد للمسئولين من الأكبر للأصغر, هذا توجه طيب من حيث المبدأ, لكن أن يصبح التفسير النفسي وصيا علي اتخاذ القرار أو حسابات السياسة فإني أحذر من ذلك تماما فلكل اختصاص حدوده, لذلك أحذر دائما من الوصاية الأكاديمية, ومن إصدار أحكام فوقية من متخصصين جالسين علي المكاتب.