عام مضي منذ نزوحه من قريته في عربة الترحيلات في صباح باكر من صباحات قريته الواطئة بمحافظة الشرقية, وأمه وأباه واقفان يودعانه ويوصيانه خد بالك من نفسك, وكانت آخر مشاهداته حينذاك, الغيطان الممتدة المزروعة بطول المدق الضيق الذي يربط قريته بالطريق الرئيسي, والذي تأرجحت فيه العربة حتي كادت تلفظهم منها, وحين ظهرت البنايات الخرسانية والتريلات الضخمة, التي تنهب الأرض نهبا, فشعر بأنه يودع عالما يعرفه إلي مجهول لا يعلمه إلا الله, مضت حياته بالمعسكر كمجند, منظمة, رتيبة, أول شيء تعلمه: سلاحك شرفك إن تركته صرت بلا شرف طاعة الأوامر واجب مقدس, المخالفة جريمة تستحق أشد أنواع العقاب والتنكيل: السجن, زيادة مدة التجنيد, وهما أشد ما قد يواجهما أي مجند. جندي مجند عبد المولي عبد المجيد عبد الكريم. أفندم. كان ينطقها بطريقة, من فرط حدتها وصرامتها وسذاجتها, كادت تضحك زملاؤه المجندين في الطابور, لولا ستر ربنا, حتي الشاويشية والصولات كانوا لا يتمالكون أنفسهم من الضحك, للدرجة التي باتوا يتعمدوا مناداته باسمه ليسمعوها منه, ليسمروا ويلهوا في بعض أمسيات الصيف القمرية أما هو فكانت جديته وصرامته تخفيان خوفا كامنا, ورغبة حريفة في أن يقضي مدة تجنيده علي خير بلا أي عقاب, حتي يعود لأهله وقريته, يزرع القيراط الذي ورثه أباه عن جده, وكان بمثابة السند في أجواء الزمن المتقلب!!. الوطن الله.. الجنود.. كان يقرأ تلك الكلمات علي حوائط المعسكر مكتوبة باللون الأحمر والأسود بخط عريض, فهو حاصل علي الشهادة الإعدادية واكتفي بها, ماذا سيفعل لي التعليم فهو يري شباب القرية أصحاب الشهادات العليا, جالسين علي المقاهي, يندبون حظوظهم, ويقضون أوقاتهم في لعب النرد والورق وتدخين النارجيلة. الضابط إذا مررت به أو مر بك, فلتؤدي التحية العسكرية علي الفور وألا تعرضت للجزاء. لذا فهو يشعر بأن الضباط أنصاف آلهة لا يجرؤ علي النظر إلي وجوههم. كانت طبيعته أبعد ما يكون عن العنف, لذا كانت أشد المأموريات إيلاما علي نفسه حين يتلقي أوامر بضرب أولئك الذين يتظاهرون في قلب العاصمة أو في شارع قصر العيني, عند مجلس الشعب, فقد علمته أمه منذ الصغر: لا تؤذي أو حيوانا أو جمادا فالمولي عينه لا تنام أما آباه, فكان يردد وهو ممدا أمام ساحة الدار ساعة العصاري: البني آدمين لا يضربون بعضهم لكنه كان ينفذ الأوامر بمنتهي الجدية والقوة, فعصاته لا تخيب أبدا وخوذته ودرعه يكفلان حمايته, فطالما آسر إلي أخلص أصدقائه بالمعسكر: أنا عايز أقضي مدتي علي خير وكانت تلك المأموريات تنتهي غالبا في دقائق معدودة بعد طول وقوف وصنع حواجز بشرية, فسرعان ما يفر معظم المتظاهرين, بمجرد البدء في تلقي الضربات الموجعة, ويتم القبض علي بقيتهم ممن يحاولون المواجهة. جندي مجند عبد المولي عبد المجيد عبد الكريم آفندم. كان ذلك اليوم صباحه مختلفا, حالة استنفار في أرجاء المعسكر, حركة دائبة ونشاط ملحوظ في كل الأفرع, تعبئة وشحن من الضباط: بأن البلد ستخرب ولابد من إنقاذها.. تحركت العربات محملة بالعدة والعتاد والكل متأهبا حتي وصلت إلي الميدان الواسع ودخلت إليه من أنحاءه المختلفة, وأغلقت حدوده.. وتم اصطفاف الجنود طبقا للأوامر, وجد عبد المولي جموعا غفيرة, لم يري مثلها, يمتلئ بها الميدان من قبل.. ولاحظ وهو واقفا أنها تزداد بمرور الوقت, وهتافات تدوي بسقوط النظام والحكومة ومنددة بالانتخابات المزورة, وعندما نظر إلي الوجوه الغاضبة, راعه تلك التعابير علي وجههم, الوجوه مختلفة هذه المرة, شباب وشابات صغيري السن, لكن ينبضوا بالحيوية والجرأة والتصميم, ارتعد, نظر حوله, الكل منشغل بحاله, بدأ إطلاق القنابل المسيلة للدموع, دوت أصوات طلقات رصاص وبدأ الجنود في الهجوم بهرواتهم, كموجات متتالية, علي الأجساد المحتشدة والتي كانت كلما تلقت الضربات صدتها أجسادهم المقتحمة دون فرار أو تراجع, وقال له أحد الشباب وهو يصد أحد ضرباته عن وجهه: أنتم زينا, احنا بنعمل كل ده عشانكم, عشان تعيشوا بكرامة. شعر بأنه لم يعد يفهم شيئا, هالة كم البراءة والطهر في عين الفتي والجسارة في صوته والصدق في نبراته, واشتبك الجميع في غابة من الدخان والدم ورائحة المطاط والبارود تعبق الجو, وإذا بعربات أسطوانية مقفلة تظهر فجأة كالمردة تدهس الجموع.. وأصوات عويل وصياح كأنها صادرة من الجحيم! سقط أحد الشباب عليه, والدماء تفور من عنقه بغزارة, وتناثرت دافئة علي وجهه, مسحها بكم جاكتته, ولفحته أنفاسه الحارة وشهقته وهو يسقط جثة هامدة بجانبه.... صرخ في هستيريا بكل ما أوتي من قوة.... استرعت انتباه زملاؤه من حوله, ألقي عصاته... خلع خوذته ودرعه وجاكته الميري.... وألقاهم علي الأرض, وأخذ يعدو بأقصي سرعة صوب إحدي الشوارع الجانبية الخالية نسبيا وصياح أحد الضباط من خلفه: ارجع يا عسكري. حتي اختفي عن الأنظار, ومنذ ذلك التاريخ, لم يعد عبد المولي لمعسكره, ولم يعد لبلدته, ولم يعثروا له علي أثر, طاف أبويه بكل الجهات الرسمية وغير الرسمية دون جدوي, حتي قنوات التلفاز والجرائد نشروع عنه وأذاعوا قصته بلا طائل, حتي عندما أخبرهم أحد المعارف بأنه شاهده, هائما علي وجهه في أثمال بالية, عند جامع سيدنا الحسين, هرعوا إلي هناك فلم يجدوا أحدا, وأدرج رسميا في قائمة المتغيبين بوزارة الداخلية. نسوه زملاؤه وأصدقائه بعد أن رثوه طويلا ذاكرين محاسنه وإن كانوا لم يستطيعوا أن يضحكوا كالماضي, أما أبويه فلم يفقدا الأمل حتي الآن, فمازالا ينتظران عودته!! جندي مجند عبد المولي عبد المجيد عبد الكريم... محافظة الشرقية... افندم.