من رصاصات "المنصة" إلي هتافات " التحرير"، ثلاثون عامًا قضاها محمد حسني السيد مبارك علي عرش مصر. سنوات لم تمر مرور الكرام، فتركت عظيم الأثر في تاريخ مصر الحديث. كيف لا وهو الأكثر حكمًا بعد محمد علي، في فترة من أكثر الفترات التاريخية صعوبة وحساسية. بدأ بحادثة اغتيال وانتهي بثورة شعبية. نحاول أن نتناول في سلسلة من الحلقات سنوات وقعت بين صوت الرصاص في المنصة، وصوت عمر سليمان في خطاب التنحي. ____________________ الحلقة الثالثة : زلزال الأمن المركزي كتب- أحمد عواد إنها لعنات السلطة، عندما تتملك القديس تحوله إلى شيطان، فليذهب كل شيء للجحيم، من يتعدي خطوطه الحمراء ليزعزع أمن البلاد، فسيلقى أشد العقاب، ولكن ماذا إذا هدد أمن النظام القائمون علي حماية النظام أنفسهم ؟؟ مثلما ذكرنا في الحلقة السابقة، أن مبارك بدأ حكمه هادئا يسعي لتثبيت حكمه الذي جاء -صدفة- ، ولم يرفع عصا القمع إلا في مواجهة الجماعات المتطرفة، التي أجهدت النظام حتي استطاع كسر شوكتها. وحاول مبارك أن يظهر الوجه الحسن له ولنظامه الجديد القديم، ولكن إذا تعلق الأمر بأمن واستقرار النظام -قبل الدولة- فعليه أن يشهر سيفه ضد من يشق عصا الطاعة. الضربة الأولى لمبارك جاءت عفوية، غير منظمة، وغير متوقعة، جاءت عنيفة، ومزلزلة، وكذلك رده عليها كان أكثر عنفًا، هكذا كانت أحداث الأمن المركزي، فبراير 1986. عندما يغضب البسطاء .. توقع من الضعيف المقهور عندما ينفذ صبره، أن يحيل لك الجبل ترابًا. إن فهم طبيعة المواطن المصري الكادح الصابر، الذي لم ينل قسطًا يسيرًا من التعليم والثقافة، ولا يهمه سوى لقمة العيش، والكرامة أحيانًا، يجعلك تتوقع منه الصمت والسكون وتحمل ما لا يطيقه البشر. ولكن احذر غضبه، فمهما طال سكوته، فإن ثورته تعادل ألف ثورة مما تحسبون. إذا وضعنا في حسباننا انتفاضة الخبز (يناير 1977) وما فعله المصريون دفعة واحدة، نتيجة لتراكم أخطاء وسياسات اقتصادية واجتماعية همّشت الفقراء، يجعلك تنظر لأحداث الأمن المركزي بشيء من التفهم، رغم أن أسبابها الحقيقية مازالت مبهمة إلي حد كبير. ما الذي يجعل بسطاء، عسكريين، مهمة جهازهم هي حماية النظام، لأن ينتفضوا دفعة واحدة انتفاضة كادت تسقط النظام ؟ الزمان : مساء الثلاثاء، 25 فبراير 1986 المكان : معسكر الأمن المركزي بمنطقة الهرم بالجيزة الحدث : 8 آلاف مجند من قوات الأمن المركزي يتظاهرون ويخرجون بخوذاتهم ورشاشاتهم من المعسكر انتفاضة الأمن المركزي "كما تسميها المعارضة" وأحداث الشغب "كما يسميها النظام" ، بدأت عندما سرت وسط المجندين أنباء عن مد فترة التجنيد الإجباري لأفراد الآمن المركزي من ثلاثة سنوات إلى أربع سنوات، وتخفيض مرتبات الجنود لسداد ديون مصر. سادت حالة من الغضب في معسكر الأمن المركزي بمنطقة الهرم، وخرج 8 آلاف مجند حاملين أسلحتهم، وتوجهوا إلى فندق "الجولي فيل"، أحد أفخر فنادق العاصمة، والذي يقع مباشرة أمام معسكرهم، ليحطموا واجهته الزجاجية، ويحرقون محتوياته. هكذا كان رد فعل الكادحين تجاه إحدى صور الثراء الفاحش، والظلم الاجتماعي. الأمر تكرر في عدد من الفنادق والمحلات التجارية وكذا قسم شرطة الهرم، وسرعان ما انتشرت عدوى الاحتجاج إلي بقية المعسكرات، وانتفضت ستة معسكرات، ليس ضد هذه الاشاعة، ولكن ضد ما يتعرضون له من ظلم وقهر، واتخذوا من هذا الخبر سببًا لغضبهم. والخطورة تكمن في عدد جنود الأمن المركزي الذي يتراوح بين 300 و 400 ألف مجند، وكونهم مسلحين، وما يتعرضون له من معاملة غير آدمية ومرتبات هزيلة، وحياة معسكرات الأمن المركزي التي تشبه "السجن" بالنسبة لهم. فكان لغضبهم سببًا كفيلا بأن يجعلهم خطرًا حقيقًا يجب مواجهته في أسرع وقت. وهكذا بعد أن أشاع جنود الأمن المركزي الفوضي في القاهرة وعدد من المحافظات، لم يجد مبارك أمامه من خيار سوي أن يضع الجيش في مواجهة دموية أمام جنود الأمن المركزي. الجيش والأمن المركزي وجهًا لوجه "شائعات مغرضة حول مد فترة تجنيد قوات الشرطة تفجر موجه من العنف والتدمير، عناصر التخريب تشعل النار في الفنادق والمنشآت السياحية والاقتصادية بالهرم والمعادي" جريدة الأهرام، 27 فبراير 1986. بعدما استطاع جنود الأمن المركزي السيطرة علي منطقة الهرم ومداخل طريق الاسكندرية وطريق الفيوم، أعلنت حالة الطوارئ، وتم فرض حظر التجول، وقامت قوات الجيش بالنزول من أجل استعادة الأمن في هذه المنطقة، واستمر الأمر كذلك حتي صباح يوم 26 فبراير، عندما استطاع الجيش أن يستعيد زمام الأمور في المنطقة الثائر. امتد العصيان إلي عدة معسكرات، واستمرت المواجهات الدامية بين الجيش وقوات الأمن المركزي في معسكر الهايسكب، وشبرا، والدراسة. ولم يقتصر الأمر علي العاصمة فقط، بل امتد إلى عدة محافظات آخري، كان أكثرها عنفًا محافظة أسيوط، حيث قام اللواء زكي بدر محافظ أسيوط (الذي أصبح وزيرًا للداخلية فيما بعد) بمواجهة غضب المجندين، واستطاع الرجل الأمني أن يسيطر علي الوضع بفضل جهود الجيش. يقول اللواء أحمد رشدي، وزير الداخلية آنذاك، والذي قدم استقالته عقب هذه الأحداث، : "علمت بأن عساكر الأمن المركزى متذمرين وخرجوا فى الجيزة عند ترعة الزمر، فتوجهت إلى هناك سريعا، ودخلت وسط العساكر المتذمرين وحاولت أن أوضح لهم الحقيقة وأستمع لمطالبهم وكدت أموت". 107 قتيلا ، و719 جريحًا ، و950 معتقلا ، كانوا حصيلة هذه الأحداث من قوات الأمن المركزي، استطاع مبارك أن يقف ثابتًا بفضل قوة الجيش، وعشوائية الانتفاضة، وعبثية المعارضة التي سارعت أحزابها بإدانة الأحداث. أزيز طائرات الجيش أسكت صرخات الجنود المقهورين. فتح الملف من جديد "إحالة بلاغ يتهم مبارك بقتل 7 آلاف جندي أمن مركزي عام 1986 إلى نيابة وسط القاهرة للتحقيق" 24 أغسطس 2011 بعد تنحي مبارك، يفتح أحدهم ملف أحداث الأمن المركزي، ويدعي أن مبارك قد أمر الجيش بقصف الأمن المركزي بالمقاتلات الحربية عام 1986، بعد فشل القوات المسلحة في السيطرة على الموقف، مما أدى إلى مقتل الآلاف من الجنود. لم يطرأ جديد علي هذا الملف المنسي، وتظل علامات الاستفهام قائمة حتي الآن. سليمان خاطر .. المجند الذي أدى واجبه حادثة آخري، وإن كانت تبدو هامشية، ولكن دلالاتها أقوي من أن نمر عليها مرور الكرام. سليمان خاطر، مواطن مصري ريفي، ولد بالشرقية لأسرة فقيرة، شهد في طفولته قصف الطائرات الاسرائيلية لمدرسة بحر البقر الابتدائية، فنشأ علي عقيدة ثابتة، أن عدوه هو الذي قصف هذه المدرسة واعتدي علي أرض مصر لسنوات. التحق سليمان خاطر بالخدمة العسكرية، وكان مجندًا بقوات الأمن المركزي. و في 5 أكتوبر 1985، وأثناء خدمته بمنطقة رأس برقة جنوبسيناء، فوجئ بمجموعة من الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته فأطلق رصاصات تحذيريه ثم أطلق النار عليهم بعد أن رفضوا الاستجابة لتحذيراته، فقتل سبعة منهم. تم محاكمة خاطر عسكريًا، وانتشرت قضيته إعلاميًا، فوصفته الصحف القومية "بالمعتوه" وتحدثت صحف المعارضة عن قصته وكيف كانت الحادثة، وأخدت تدافع عنه بشدة. "أنا لا أخشى الموت ولا أرهبه.. إنه قضاء الله وقدره، لكنني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم" سليمان خاطر أثناء محاكمته صدر الحكم ضد سليمان خاطر بالأشغال الشاقة المؤبدة 25 عامًا في 28 ديسمبر 1985، وتم نقل سليمان من السجن إلي المستشفي الحربي لعلاجه من "البلهارسيا" ، ولكن الأمر لم يتوقف عند محاكمته فقط، بل أمتد لما هو أخطر.
"انتحار سليمان خاطر في مستشفي السجن الحربي، الحرس يعثر عليه معلقًا من رقبته بنافذة غرفته، تقرير كبير الأطباء الشرعيين : الوفاة بسبب أسفكسيا الخنق" جريدة الأهرام 9 يناير 1986 أعلن الطب الشرعي انتحار سليمان خاطر في 7 يناير 1986 ، واتهمت أسرته والمعارضة النظام بقتله، وتضاربت أقوال المسئولين عن طريقة انتحاره هل كانت بملاءة السرير أو بقطعة قماش. في حين أن شهودًا قالوا أن الانتحار ليس الاحتمال الوحيد وأن الجثة كان بها أثار خنق بآلة تشبه السلك الرفيع علي الرقبة، وكدمات علي الساق تشبه أثار جرجرة أو ضرب. وفي النهاية تبقي واقعة سليمان خاطر شاهدًا علي تحول النظام المصري في علاقته مع اسرائيل. سليمان خاطر كان عنوانًا لعلاقة بدأت في عهد السادات، وتطورت في عهد مبارك تطورًا مذهلا، يري المحللون أنها كانت سببًا من أسباب الغضب الشعبي الذي أطاح به من سدة الحكم. علاقة مبارك باسرائيل وبالنظام الأمريكي عامة، ستكون عنوان حلقتنا القادمة من ثلاثون عامًا من حكم مصر.