نأتى أخيراً لحادث شارل إبدو الذى أدمى قلب عاصمة النور. قيل أن الهجوم كان بحجة الرد على الإساءة للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يخفى على عاقل أن المتشددين لو كانت قضيتهم الأساسية بالفعل هى الدفاع عن الدين، لكان أولى بهم تنفيذ هذه العملية فى الدنمارك التى بدأت ماراثون الإساءة منذ سنوات. فلماذا فرنسا إذن؟. لقد كان خطأ فرنسا عظيما كحليفة قديمة لأمريكا ضمن الاتحاد الأوروبى وشارل ابدو ليست نهاية المطاف. فقد كان لفرنسا مصلحة فى المنطقة وخاصة بسوريا، حيث استعدت عام 2013 لضرب سوريا إلا أن الولاياتالمتحدة خذلتها وأصابته بخيبة امل جعلت من الصعب على فرنسا غفرانها لأمريكا، ثم شاركت على مضض فى قوات التحالف لضرب داعش، وقد صرح وزير الدفاع الفرنسى لودريان فى مؤتمر جمعه بنظيره الأمريكى هيجل فى أكتوبر الماضى بأن فرنسا "تشارك فى غارات جوية ضد المتطرفين بالعراق تلبية لطلب رسمى تلقته من الحكومة العراقية وفقا لميثاق الأممالمتحدة"، فيبدو واضحا تمسك هولاند بسياسته التى أعلنها بعد فوزه برئاسة فرنسا بالعمل على حفظ السلام وإحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقد جاء رد فرنسا قوياً حين اعترف برلمانها بالدولة الفلسطينية أوائل ديسمبر الماضي، رغم تهديدات نتنياهو السابقة بأن هذا التصرف سيعد "خطأ فادحاً وغير مسئول"، بينما حذر السفير الإسرائيلى بفرنسا صراحة من أن هذه الخطوة "ستفتح أبواب العنف فى فرنسا". إذاً. أخطأ هولاند بحق اسرائيل وأمريكا حين اعترف بالدولة الفلسطينية مما يعنى الضغط على إسرائيل للعودة للمفاوضات والقبول بحل الدولتين، فبدأ الضغط على الحكومة الفرنسية بهدف إحراجها للتراجع عن مواقفها الثورية التى انتهت باستقبال حافل للرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى وعقد صفقات عسكرية وتجارية ضخمة مع مصر، مما يعد تحدياً واضحاً لأمريكا وإسرائيل، فجاء حادث شارل إبدو الغامض ليثير علامات استفهام عديدة، خاصة بعد تصفية جميع المشتبه بهم رغم استسلامهم، وانتحار - تصفية الضابط الفرنسى المسئول عن التحقيق مع أسرة أحد المتهمين وظهور تقارير تشير لمعرفة أمريكا بالهجوم مسبقا وعدم تحذيرها لفرنسا. يبدو أن هولاند فهم الرسالة، فوجه الدعوة لزعماء العالم للمشاركة بمسيرة ضد الإرهاب، فكانت رسالة مباشرة لأوباما بمدى التكتل العالمى الذى قد يتحد ضده لو استمرت أمريكا فى فرض إرادتها بالقوة على دول العالم وتجاهل مصالح حلفائها ومقايضة الشعوب على أمنها، لقد بدا واضحا أن مواساة الشعب الفرنسى لم تكن الهدف الوحيد للدعوة، فصورة زعماء العالم فى المسيرة -التى خلت من وجود أمريكى رسمي- فيما عدا وجود نتنياهو الإرهابى الذى فرض نفسه على الموقف ربما لإبعاد الشبهة عن نفسه. ولكنه كشف عن وجهه حين دعا يهود فرنسا للهجرة لإسرائيل لضمان أمنهم- كانت الصورة معبرة حقاً وتحمل رسالة مباشرة لأمريكا، وبات واضحا أن إلصاق التهمة بالمسلمين المتشددين أصبح ملهاة، فقد ادرك الجميع أنهم مجرد أداة فى يد أمريكا تستخدمها ضد الجميع الآن كما استخدمتها سابقا ضد الاتحاد السوفيتي. وهى بذلك الحادث تضمن إثارة شعوب العالم ضد المسلمين بما يدعم مصالحها التى أوشكت على الانهيار بالشرق الأوسط. وتضمن تصحيح صورة إسرائيل التى اهتزت أمام العالم فتوالت الاعترافات بالدولة الفلسطينية. كما تضمن إرهاب الشعوب من فكرة تحدى الإرادة الأمريكية. نخلص من الأمر إلى أن أمريكا أصبحت مهددة وتشعر بتصاعد حدة الغضب ضدها وبتحالفات تحاك ضدها فى السر والعلن وصعود قوى كبرى تذهب بالعالم لتعددية قطبية، الأمر الذى ينذر بالخطر، فمن يملك القوة يصعب عليه الاحتكام للعقل طويلاً خاصة لو تهددت مصالحه، مما يلقى عبئاً كبيراً على دول العالم خاصة الكبرى منها لمواجهة الصلف الأمريكي، وعبئا على الشعب الأمريكى ليستيقظ من حالة التنويم المغناطيسى الذى يمارسه عليه الإعلام الأمريكى الموجه، فبدأ مرحلة التمرد. ولكن الأهم هو إدراك الجميع أن أمريكا لا حليف لها سوى مصالحها، ولو اضطرتها الظروف لامتصاص دم حلفائها لتضمن بقاءها، وها قد بدأت مصر بالمواجهة، فهل تستطيع دول العالم أن تصمد وتواجه أم ستؤثر السلامة وتعود لصفوف المطيعين؟! هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.!.